جُــزْءٌ في قَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}






جُــزْءٌ
 في قَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}

أعده
وليد بن حسني بن بدوي بن محمد الأموي
عفا الله عنه


بسم الله ، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
فقد أشكل قوله تعالى { اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } على كثير من المفسرين واللغويين ولم لم يقل سبحانه (استطعماهم) ؟! وأجيب على ذلك بعدة أجوبة نذكرها ونعقب عليها بما تستحقه ثم نذكر إن شاء الله أجوبة أخرى مما فتح الله به علينا ، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

فصل في جواب تقي الدين السبكي

قال التاج السبكي في فتاوى والده :" كَتَبَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفَدِيُّ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ -قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
أَسَيِّدَنَا قَاضِي الْقُضَاةِ وَمَنْ إذَا *** بَدَا وَجْهُهُ اسْتَحْيَا لَهُ الْقَمَرَانِ
وَمَنْ كَفُّهُ يَوْمَ النَّدَى وَيَرَاعُهُ *** عَلَى طِرْسِهِ بَحْرَانِ يَلْتَقِيَانِ
وَمَنْ إنْ دَجَتْ فِي الْمُشْكِلَاتِ مَسَائِلُ *** جَلَاهَا بِفِكْرٍ دَائِمِ اللَّمَعَانِ
رَأَيْت كِتَابَ اللَّهِ أَكْبَرَ مُعْجِزٍ *** لِأَفْضَلَ مَنْ يَهْدِي بِهِ الثَّقَلَانِ
وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِعْجَازِ كَوْنُ اخْتِصَارِهِ *** بِإِيجَازِ أَلْفَاظٍ وَبَسْطِ مَعَانِ
وَلَكِنَّنِي فِي الْكَهْفِ أَبْصَرْت آيَةً *** بِهَا الْفِكْرُ فِي طُولِ الزَّمَانِ عَنَانِي
وَمَا هِيَ إلَّا { اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } فَقَدْ *** يُرَى اسْتَطْعَمَاهُمْ مِثْلَهُ بِبَيَانِ
فَأَرْشِدْ عَلَى عَادَاتِ فَضْلِك حَيْرَتِي *** فَمَالِي بِهَا عِنْدَ الْبَيَانِ يَدَانِ

كَتَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ([1]) : رَحِمَهُ اللَّهُ .
الْجَوَابُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ . قَوْله تَعَالَى { اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } مُتَعَيَّنٌ وَاجِبٌ .
وَلَا يَجُوزُ مَكَانَهُ([2]) اسْتَطْعَمَاهُمْ لِأَنَّ " اسْتَطْعَمَا " صِفَةٌ لِلْقَرْيَةِ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ جَارِيَةٌ عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ لَهُ كَقَوْلِك أَتَيْت أَهْلَ قَرْيَةٍ مُسْتَطْعِمٍ أَهْلَهَا .
لَوْ حَذَفْت أَهْلَهَا هُنَا وَجَعَلْت مَكَانَهُ ضَمِيرًا لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ هَذَا .([3])
وَلَا يَجُوزُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ إذَا جَعَلْت " اسْتَطْعَمَا " صِفَةً لِقَرْيَةٍ وَجَعْلُهُ صِفَةً لِقَرْيَةٍ سَائِغٌ عَرَبِيٌّ لَا تَرُدُّهُ الصِّنَاعَةُ وَلَا الْمَعْنَى ، بَلْ أَقُولُ إنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ .
أَمَّا كَوْنُ الصِّنَاعَةِ لَا تَرُدُّهُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا وَصْفُ نَكِرَةٍ بِجُمْلَةٍ كَمَا تُوصَفُ سَائِرُ النَّكِرَاتِ بِسَائِرِ الْجَمَلِ .

وَالتَّرْكِيبُ مُحْتَمِلٌ لِثَلَاثَةِ أَعَارِيبَ :
أَحَدُهَا : هَذَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبِ صِفَةٍ لِأَهْلِ.
وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ جَوَابَ " إذَا "([4]) . وَالْأَعَارِيبُ الْمُمْكِنَةُ مُنْحَصِرَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ لَا رَابِعَ لَهَا .
وَعَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ " اسْتَطْعَمَاهُمْ " ،وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فَمَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ الْآيَةَ كَمَا تَأَمَّلْنَاهَا ظَنَّ أَنَّ الظَّاهِرَ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَغَابَ عَنْهُ الْمَقْصُودُ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ وُفِّقْنَا لِلْمَقْصُودِ وَلَمَحْنَا بِعَيْنِ الْإِعْرَابِ الْأَوَّلَ مِنْ جِهَةِ مَعْنَى الْآيَةِ وَمَقْصُودِهَا .

وَأَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَإِنْ احْتَمَلَهُمَا التَّرْكِيبُ بَعِيدَانِ عَنْ مَعْنَاهَا أَمَّا الثَّالِثُ : وَهُوَ كَوْنُهُ جَوَابَ " إذَا " فَلِأَنَّهُ يُصَيِّرُ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ مَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ بِاسْتِطْعَامِهِمَا عِنْدَ إتْيَانِهِمَا وَأَنَّ ذَلِكَ تَمَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَنُجِلُّ مِقْدَارَ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَنْ تَجْرِيدِ قَصْدِهِمَا إلَى أَنْ يَكُونَ مُعْظَمُهُ أَوْ هُوَ طَلَبُ طُعْمَةٍ ؛ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ بَلْ كَانَ الْقَصْدُ([5]) مَا أَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَ الْيَتِيمَانِ أَشَدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّك وَإِظْهَارَ تِلْكَ الْعَجَائِبِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَوَابُ "إذَا " قَوْلُهُ {قَالَ لَوْ شِئْت} إلَى تَمَامِ الْآيَةِ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُهُ صِفَةً لِأَهْلِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ فَلَا يُصَيِّرُ الْعِنَايَةَ إلَى شَرْحِ حَالِ الْأَهْلِ مِنْ حَيْثُ هُمْ هُمْ ، وَلَا يَكُونُ لِلْقَرْيَةِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ وَنَحْنُ نَجِدُ بَقِيَّةَ الْكَلَامِ مُشِيرًا إلَى الْقَرْيَةِ نَفْسِهَا ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ {فَوَجَدَا فِيهَا} وَلَمْ يَقُلْ "عِنْدَهُمْ"([6]) وَإِنَّ الْجِدَارَ الَّذِي قُصِدَ إصْلَاحُهُ وَحِفْظُهُ وَحِفْظُ مَا تَحْتَهُ جُزْءٌ مِنْ قَرْيَةٍ مَذْمُومٍ أَهْلُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ سُوءُ صَنِيعٍ مِنْ الْآبَاءِ عَنْ حَقِّ الضَّيْفِ مَعَ بَيَانِ طَلَبِهِ ، وَلِلْبِقَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الطِّبَاعِ ! وَكَانَتْ هَذِهِ الْقَرْيَةُ حَقِيقَةً بِالْإِفْسَادِ وَالْإِضَاعَةِ فَقُوبِلَتْ بِالْإِصْلَاحِ بِمُجَرَّدِ الطَّاعَةِ فَلَمْ يَقْصِدْ إلَّا الْعَمَلَ الصَّالِحَ ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ بِفِعْلِ الْأَهْلِ الَّذِينَ مِنْهُمْ غَادٍ وَرَائِحُ فَلِذَلِكَ قُلْت : إنَّ الْجُمْلَةَ يَتَعَيَّنُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى جَعْلُهَا صِفَةً لِقَرْيَةٍ .

وَيَجِبُ مَعَهَا الْإِظْهَارُ دُونَ الْإِضْمَارِ ، وَيَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ أَنَّ " الْأَهْلَ " الثَّانِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْأَوَّلُ أَوْ غَيْرُهُمْ أَوْ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ أَتَى قَرْيَةً لَا يَجِدُ جُمْلَةَ أَهْلِهَا دَفْعَةً ، بَلْ يَقَعُ بَصَرُهُ أَوَّلًا عَلَى بَعْضِهِمْ ثُمَّ قَدْ يَسْتَقْرِيهِمْ فَلَعَلَّ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ الصَّالِحَيْنِ لَمَّا أَتَيَاهَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُمَا كَمَا يَظْهَرُ لَهُمَا مِنْ حُسْنِ صُنْعِهِ اسْتِقْرَاءَ جَمِيعِ أَهْلِهَا عَلَى التَّدْرِيجِ لِيُبَيِّنَ بِهِ كَمَالَ رَحْمَتِهِ وَعَدَمَ مُؤَاخَذَتِهِ بِسُوءِ صَنِيعِ بَعْضِ عِبَادِهِ .

وَلَوْ عَادَ الضَّمِيرُ فَقَالَ اسْتَطْعَمَاهُمْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَيْنِ لَا غَيْرُ، فَأَتَى بِالظَّاهِرِ إشْعَارًا بِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ فِيهِ وَأَنَّهُمَا لَمْ يَتْرُكَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا حَتَّى اسْتَطْعَمَاهُ وَأَبَى([7]) وَمَعَ ذَلِكَ قَابَلَاهُمْ بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ فَانْظُرْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَالْأَسْرَارَ كَيْفَ غَابَتْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَاحْتَجَبَتْ حَتَّى كَأَنَّهَا تَحْتَ الْأَسْتَارِ حَتَّى ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَتَرَكَ كَثِيرٌ التَّعَرُّضَ لِذَلِكَ رَأْسًا وَبَلَغَنِي عَنْ شَخْصٍ أَنَّهُ قَالَ : اجْتِمَاعُ الضَّمِيرَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْتَثْقَلٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ "اسْتَطْعَمَاهُمْ" هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ النُّحَاةِ وَلَا لَهُ دَلِيلٌ وَالْقُرْآنُ وَالْكَلَامُ الْفَصِيحُ مُمْتَلِئٌ بِخِلَافِهِ .

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ {يُضَيِّفُوهُمَا} وَقَالَ تَعَالَى {فَخَانَتَاهُمَا}([8]) وَقَالَ تَعَالَى (حَتَّى إذَا جَاءَنَا ) فِي قِرَاءَةِ الْحَرَمِيِّينَ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَلْفُ مَوْضِعٍ هَكَذَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ([9]).

وَلَيْسَ هُوَ قَوْلًا حَتَّى يُحْكَى وَإِنَّمَا لَمَّا قِيلَ نَبَّهْت عَلَى رَدِّهِ وَمِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ أَنَّ (اسْتَطْعَمَا) إذَا جُعِلَ جَوَابًا فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْإِتْيَانِ ؛ وَإِذَا جُعِلَ صِفَةً احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اُتُّفِقَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ وَذُكِرَ تَعْرِيفًا وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُمَا عَلَى عَدَمِ الْإِتْيَانِ لِقَصْدِ الْخَيْرِ ، وَقَوْلُهُ (فَوَجَدَا) مَعْطُوفٌ عَلَى (أَتَيَا).انتهى

وهو جواب فيه كلفة ظاهرة ولذا قال ابن عاشور في (التحرير والتنوير) :" وقد أورد الصفدي على الشيخ تقي الدين السبكي سؤالاً عن نكتة هذا الإظهار في أبيات. وأجابه السبكي جواباً طويلاً نثراً ونظماً([10]) بما لا يقنع ، وقد ذكرهما الآلوسي ".


فصل في جواب آخر
قال بعضهم : وضع الظاهر موضع المضمر للتأكيد كقوله :
ليت الغراب غداة ينعب بيننا ***كان الغراب مقطع الأوداج
وقول الآخر :
لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شَيءٌ *** نَغَّص المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
بل ومثل قول الله (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)[البقرة:59] وهذا للتشنيع .
قلت : وهذا بابه غير قول الشاعر :
سعاد التي أضناك حب سعادا *** وَإِعْرَاضُهَا عَنْكَ اسْتَمَرَّ وَزَادَا
لأن هذا شاذ لا يقاس عليه بخلاف ما نحن فيه . وهذا غير قوله تعالى (وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله) وقوله {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} لأن هذا من التبرك باسم الله تعالى ولأن ذكر اسم الله المظهر أحسن من الإضمار وإن كان في الإضمار اختصار ولعلي اجعل لتلك القاعدة جزءاً .

فصل في جواب آخر
قال بعضهم : ذكر الظاهر مكان المضمر للتأسيس وذلك أنَّ الأهل المأتيِّين ليسوا جميع الأهل ، إنما هم البعض؛ إذ لا يمكن أن يأتيا جميع الأهل في العادة في وقتٍ واحدٍ ، فلما ذكر الاستطعام ، ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل ، كأنهما تتبعا الأهل واحداً واحداً ، فلو قيل : استطعماهم ، لاحتمل أنَّ الضمير يعودُ على ذلك البعضِ المأتيِّ ، دون غيره ، فكرَّر الأهل لذلك.
قلت : وفي هذا غرابة وتكلف، وفيه دعوى أن الأهل الأولى غير الأخرى وهذا غير صحيح على ذلك التخريج .



فصل في جواب آخر
قال أبو حيان :" قد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين {أتيا أهل القرية} لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بعضهم ، فلما قال {استطعما} احتمل أنهما لم يستطعما إلاّ ذلك البعض الذي أتياه فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحداً واحداً بالاستطعام ، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائداً على البعض المأتي ".


فصل في أجوبة لي على الإشكال
ولقد تأملت هذه التعليلات طويلًا ، ثم لم يتبين لي فيها كبير وجاهة ، فأنعمت النظر وأرجعت البصر وأنهكت الفكر مستصحباً مدخرات معرفتي بالبلاغة القرآنية وأوجه الإعجاز اللغوية وهي على عظمها من جهة كونها نعمًا لله عليَّ إلا أنها يتلف المتزود بها قبل بلوغ مرامه ويفتقر إلى أضعافها لدرك مطلوبه في مقامه ، فسألت الله بلسان الحال أن يزودني بمدده ويسعفني بغوثه حتى تزاحمت على خاطري أوجه التعليل ، وتواردت على معالي التوجيه لتلك الآية الكريمة ، ومن تلك الأوجه :
الوجه الأول :
أن (أهل) مبهم من جهة تذكيره وتأنيثه وترجح تذكيره لأجل إضافته إلى مؤنث (قرية) مثل قوله تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين) فترجح إعاد الضمير مؤنثاً دالاً عليها فيقال (استطعماها) ولو كان ذلك لالتبس المرجع على الناظر أهو (أهل) المضاف أو (قرية) المضاف إليه فتجتم ذكر الظاهر دفعاً للالتباس.

الوجه الثاني :
أن لفظة (استطعماهم) المقترحة لم يقع لها مثال في القرآن بخلاف إعادة الظاهر فإن له مثالاً هو وقوله تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)[البقرة:282]. فخرج ذلك مخرج مراعاة التركيب وتوازن الألفاظ .

الوجه الثالث :
أن أهل الأولى في قوله (أتيا أهل قرية) بخلاف (أهل) الثانية من قوله (استطعما أهلها) فأهل الأولى هم عموم السكان والثانية المقتدرون على الضيافة منهم .

الوجه الرابع :
وهو من توارد الخاطر على الخاطر أن في (استطعماهم) ثقلاً وتنافرًا في النطق والأحرف.

الوجه الخامس :
أن في قوله (استطعما أهلها) مراعاة في زيادة اللفظ ما في قوله تعالى قبلها (أقتلت نفسًا زكية ) ولم يقل (أقتلته) لأن كونه نفسًا زكية معلوم وإنما ذكر تشنيعًا وكذلك وضع الظاهر موضع المضمر في (استطعما أهلها) تشنيعًا وتقريعًا لأولئك الأهل ، وقد ذكر ذلك غير واحد . وكذلك فيه مراعاة لقوله (فوجدا فيها) ولم (فوجدا عندهم) كما ذكر السبكي .
ولكل سورة من الخصائص اللفظية التي ليست في غيرها ما لا ينكره إلا غير محقق .

الوجه السادس :
أن جملة (استطعما أهلها) ليست على الراجح جوباً لقوله (إذا أتيا أهل قرية) إنما هي وصف للقرية ولا يصح فيه إلا ذكر الظاهر .
وقد يقول بعضهم : إن ذلك ذكره التقي السبكي فلا يحق لك تكراره ناسبًا القول لنفسك.
فأقول هذا الجواب جار على أصولي دون أصوله لأنه يعتقد أن جميع الكلام (حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها) كله قديم بلا تقديم ولا تأخير فعلى قوله لا يتوجه التصرف بذكر الظاهر مراعاة لكلمة (قرية) الموصوفة . أي إذا كان جميع كلمات القرآن قديمة على ما يعتقد فلا يراعى شيء في كلمة لأجل أخرى إلا أن تكون سابقة لها وهذا لا يعتقده بخلافي .

الوجه السابع :
أن في وضع الظاهر موضع المضمر إيناسًا بذكره وهو إيناس لفظي يناسب إيناسًا في المعنى حاصله أن أهل القرية أنسوا بسؤال موسى والخضر ولم يكونوا غافلين ولا ساهين عن سؤالهم وفي رد استطعامهم من الشناعة - على هذا المعنى - ما فيه.
وهذا الجواب والذي قبله أقوله فيه : إن مثله كمثل الزهرة لا تحتمل أن تحك بين الأكف ! واللبيب تكفيه الإشارة .
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
 




[1]  - هذا قوله ابنه فيه وإلا فهو أشعري محترق شديد الطعن في أئمة السنة وعلماء الدين كشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية والإمام شمس الدين ابن القيم رحمهما الله .
وقد رد عليه غير واحد من أهل الحق ، ومنهم السيد العلامة النابغة البارع  ابن عبد الهادي في كتابه ( الصارم المنكي في الرد على السبكي ) رد عليه كلامه في مسائل الزيارة وشد الرحال إلى القبور وغيرها ، قال في أوله :" ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة ، صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة والحجج الداحضة ، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها .
وهو من الجملة لون عجيب وبناء غريب تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد ومرة يزعم فيما يقول ويدعيه أنه من جملة المقلدين ،فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد ، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد " .
[2]  - قصد أنه غير جائز في اللغة العليا أما من جهة الفصاحة فجائز .
[3]  - قال ابن هشام الأنصاري في مغني اللبيب ص 560:" ومنه ( حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها ) وإنما أعيد ذكر الأهل لأنه لو قيل استطعماهم مع أن المراد وصف القرية لزم خلو الصفة من ضمير الموصوف ولو قيل استطعماها كان مجازًا ولهذا كان هذا الوجه أولى من أن تقدر الجملة جوابا لإذا لأن تكرار الظاهر يعرى حينئذ عن هذا المعنى "اهـ
[4] - اختاره أبو البقاء في إعرايه ( 2 / 107 ).
[5]  -  وهذا  لا دليل عليه لأنه كما أجاب بعض المفسرين  كانت الضيافة سنة متبعة من عصر الخليل إبراهيم عليه السلام في الناس ولم يكن يجد المسافر حرجاً من طلبها ممن نزل عليهم . وهذا ليس من السؤال المذموم ومن ظن ذلك مثل السؤال فقد – كما قال الشوكاني - أخطأ خطأ بينا ومن ذلك قول بعض الأدباء الذين يسألون الناس :
 ( فإن رددت فما في الرد منقصة *** عليَّ قد رد موسى قبل والخضر).
وقال ابن الجوزي في ( الأذكياء ) و ( أخبار الظراف والمتماجنين ) ص 141 :" رؤي فقير في قرية فقيل له ما تصنع فقال ما صنع موسى والخضر عليهما السلام يعني استطعما أهلها " .
وفي ( خاص الخاص ) للثعالبي :"أن  ابن عبدك البصري كان من أظرف الفقهاء، فرئي يوما يستطعم في قرية، فقيل له: أتستطعم وأنت أنت؟ فقال: لي أسوة في موسى والخضر حين " أتيا أهل قرية استطعما أهلها ".
[6]  - هذا لأنهما – كما قال بعض المفسرين – سألا بعض القرية دون جميع أهلها  .
[7]  - وهل هذا جائز في حق موسى والخصر أن يسألا كل واحد ويأبى ثم يصبران على سؤال الجميع، وأنت تنزهما عن دخول القرية لمجرد الطعمة  ؟!
وقصد الطعمة ليس بقبيح وقد أجاب عنه غير واحد فقال النيسابوري :" وأجيب بأن الرجل إذا جاع بحيث ضعف عن الطاعة أو أشرف على الهلاك لزمه الاستطعام ووجبت إجابته "اهـ
ثم أورد على نفسه إشكالاً حاصله : كيف يشرف على الهلاك وهو يقوي على إقامة جدار ! وأجاب بأن ذلك معجزة ، وهذا تكلف واضح ولا دليل يتعين المصير إليه لإثبات أن ذلك معجز. ويمكن أن نجيب بأن الاستطعام جائز في كل حال في شرعهم للمسافر وواجبة إجابته والله أعلم.
وفي خبر سفيان الثوري وبنت أم حسان الذي في أمالي ابن الشجري ما يدل على شدة جوع موسى والخضر عليهما السلام وذلك لأنه دخل عليها فوجد في وجهها أثر الجوع فقال لها :" إنك لم تؤتى أكثر مما أوتي موسى والخضر إذ أتيا أهل قرية استطعما أهلها " .
[8]  -  ( استطعماهم ) أثقل من ( استطعماهما ) التي على وزن ( فخانتاهما ) ولم يقع في القرآن مثل ( استطعماهم ) فقول من قال بالاستثقال له حظ من النظر .
[9]  - ذهب إليه النيسابوري والشوكاني وغير واحد .
[10]  - تركنا ذكر نظم السبكي اختصاراً ، واكتفاء بالنثر . وقد ذكر السيوطي في الإتقان السؤال والجواب مختصرًا ( 3 / 255 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق