""
النُّكَتُ
عَلَى مَقَالَةٍ للذَّهَبيِّ ""
بسمِ
اللهِ ، والحمدُ للهِ ، والصلاةُ والسلامُ علي رسولِ اللهِ وعلي آلِه وصحبِه ومن
والاه :
أما
بعدُ :
قال الذهبيُّ -عامله الله بما يستحق- في
كتابِه ( سيرُ أعلامِ النُّبلاءِ ) في ترجمةِ محمَّدِ بن هلالٍ ابنِ البُّوابِ (
17 / 319 – 320 ) :" قلت: الكتابة مسلمة لابن البواب، كما أن أقرأ الأمة أبي
بن كعب، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالتأويل ابن عباس، وأمينهم أبو عبيدة،
وعابرهم محمد بن سيرين، وأصدقهم لهجة أبو ذر، وفقيه الأمة مالك، ومحدثهم أحمد بن
حنبل، ولغويهم أبو عبيد، وشاعرهم أبو تمام، وعابدهم الفضيل، وحافظهم سفيان الثوري،
وأخباريهم الواقدي، وزاهدهم معروف الكرخي، ونحويهم سيبويه، وعروضيهم الخليل،
وخطيبهم ابن نباتة، ومنشئهم القاضي الفاضل، وفارسهم خالد بن الوليد رحمهم الله
" انتهى
قلت : هذه عبارة
رقيقة ، وفائدة يتيمية دقيقة ، ودرة لا تجود بها في كل حين السليقة لولا غبار
يكتنفها في بعض مظاهرها ، وزلل يعتري بعض أركانها وإليكم بيان ذلك :
قال: ( الكتابة
مسلمة لابن البواب[[1]] ) وهذا مسلم له ؛ قال
في ( معجم الأدباء ) في ترجمة علي بن حمزة بن علي بن طلحة البغدادي : (....هو صاحب
الخط المليح الغاية على طريقة على بن هلال بن البواب خصوصاً قلم المصاحف، فإنه لم
يكتبه أحد مثله فيمن تقدم أو تأخر، ولذلك ذكرناه في هذا الكتاب ) اهـ
وإن تعجب فعجب لصاحب
كتاب ( تاريخ الخط العربي وآدابه ) الذي لم يترجم لابن البواب هذا ! إذا علمت هذا
منا أدهشك تعقبنا الذهبي في ذلك وإن لم نبادرك به لأن ابن البواب ( ت : 413 هـ )
ليس محصل السبق في ذلك الميدان في نفس الأمر ولكنها الشهرة فالكتابة المستقيمة أصلها
في ثقيف وابن البواب مولى لبني أمية ؛ قال أبو عبيد في ( فضائل القرآن ) : (حدثنا
حجاج عن هارون بن موسى أخبرني الزبير بن الخريت عن عكرمة قال لما كتبت المصاحف
عرضت على عثمان فوجد فيها حروفاً من اللحن فقال لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو
قال ستعربها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه
الحروف ) أخرجه ابن الأنباري في كتاب الرد
على من خالف مصحف عثمان وابن أشته في كتاب المصاحف . وأيضاً كتبة المصحف الإمام خير
من ابن البواب هذا لأن الله اصطفاهم لذلك الشأن الرفيع وتلك المنقبة العالية المنيفة .وكتبة النبي (
صلي الله عليه وسلم ) كذلك وكتبة الخلفاء من بعد وكذلك كتبة السر المشاهير كما في
( حسن المحاضرة ) فإن فيهم من هو خير من البواب هذا . ومنهم كاتب مروان بن محمد
وهو عبد الحميد الكاتب .
وأما قوله : (
وأعلمهم بالتأويل ابن عباس ) فغير مسلم فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قال
( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل ) أخرجه أحمد وليس بلازم أن يكون أعلم الصحابة
بالتأويل ؛ قال ابن القيم في ( هداية الحيارى : ص 122 طبعة الجامعة الإسلامية ) :
(...وكيف يدعى في أصحاب نبينا أنهم عوام وهذه العلوم النافعة المبثوثة في الأمة
على كثرتها واتساعها وتفنن ضروبها إنما هي عنهم مأخوذة ومن كلامهم وفتاويهم
مستنبطة وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم وفتيانهم وقد طبق الأرض علماً وبلغت
فتاويه نحواً من ثلاثين سفراً وكان بحراً لا ينزف لو نزل به أهل الارض لأوسعهم
علماً وكان إذا أخذ في الحلال والحرام والفرائض يقول القائل لا يحسن سواه فاذا أخذ
في تفسير القرأن ومعانيه يقول السامع لا يحسن سواه فاذا أخذ في السنة والرواية عن
النبي صلى الله عليه و سلم يقول القائل لا يحسن سواه فاذا أخذ في القصص وأخبار الأمم
وسير الماضين فكذلك فاذا أخذ في أنساب العرب وقبائلها وأصولها وفروعها فكذلك فاذا
أخذ في الشعر والغريب فكذلك ) اهـ
فكونه مممن أجيبت
دعوة النبي فيه فعلمه الله التأويل لا يسوغ لقائل أن يقول إن معرفة التأويل مسلمة
له مطلقاً وفي القوم أولو الأسنان من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .
وأما ما رواه أبو
زرعة الدمشقي من قول عمر (هو أعلم الناس بما أنزل الله على محمد ) [ فتح الباري 7
/ 100 ، السلفية ] فمحمول علي المدح وهضم
النفس فإن ابن عباس من تلامذة عمر في هذا الشأن كان يترقبه الأشهر[[2]]
يسأله عن القرآن وأسباب النزول كما هو مشهور .
وأما قوله : ( وعابرهم ابن سيرين ) فمن التعبير
وهو تفسير الرؤيا وتبيينها وأبو بكر الصديق أعبر منه لأنه كان يعبر والنبي ( صلى
الله عليه وسلم ) حاضر ولا ينكر عليه .
وأما قوله ( وأصدقهم
لهجة أبو ذر) فشهادة من الصادق الأمين ولا ينافي ذلك صدق لهجة غيره من الصحابة وهو
أصدق الصحابة لهجة وأبو بكر ( رضي الله عنه ) أعظمهم تصديقاً ؛ قال شيخ الإسلام
ابن تيمية[[3]]
: (فعلم أن هذه الكلمة معناها أن أبا ذر صادق ليس غيره أكثر تحرياً للصدق منه ولا
يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحرى الصدق أن يكون بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق
وفي عظم الحق الذي صدق فيه وصدق به وذلك أنه يقال فلان صادق اللهجة إذا تحرى الصدق
وإن كان قليل العلم بما جاءت به الأنبياء والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ما
أقلت الغبراء أعزم تصديقاً من أبي ذر بل قال أصدق لهجة والمدح للصديق الذي صدق
الأنبياء ليس بمجد كونه صادقاً بل في كونه مصدقاً للأنبياء وتصديقه للنبي صلى الله
عليه وسلم هو صدق خاص فالمدح بهذا التصديق الذي هو صدق خاص نوع والمدح بنفس كونه
صادقا نوع آخر فكل صديق صادق وليس كل صادق صديقاً )انتهى
وأما قوله ( وشاعرهم
أبو تمام ) فغير مسلم ، بل قد سئل المعري عنه وعن المتنبي والبحتري أيهم أشعر فقال
: ( هما حكيمان، والشاعر البحتري ) اهـ وكان قد شرح دواوين الثلاثة . وأولى من ذلك
أن يقول الذهبي ( وشاعرهم حسان ) أو ( كعب ) أو ( ابن رواحة ) كل ذلك يسعه عفا
الله عنه .
وأما قوله (
وأخباريهم الواقدي ) فغير جيد ، لأنه كذاب وضاع متروك علي سعة علمه وأحرى به أن
يقول ( وأخباريهم محمد بن إسحاق ) فإنه مقبول عند الجمهور في ذلك الباب .
وأما قوله ( وزاهدهم
معروف الكرخي ) فغير مسلم ؛ فإن الحسن البصري خير منه والفضيل بن عياض أزهد منه
وأنصر للسنة .
وأما قوله ( وخطيبهم
ابن نباتة ) فلا يبال به ، والصواب أن يقال ( وخطيبهم ابن قتيبة ) ؛ قال شيخ
الإسلام[[4]]
: ( وابن قتيبة هو من المنتسبين الى أحمد و إسحاق و المنتصرين لمذاهب السنة
المشهورة و له في ذلك مصنفات متعددة قال فيه صاحب كتاب التحديث بمناقب أهل الحديث
و هو أحد أعلام الأئمة و العلماء و الفضلاء أجودهم تصنيفاً و أحسنهم ترصيفاً له
زهاء ثلاثمائة مصنف و كان يميل إلى مذهب أحمد و إسحاق و كان معاصراً لإبراهيم
الحربي و محمد بن نصر المروزي و كان أهل المغرب يعظمونه و يقولون من استجاز
الوقيعة فى إبن قتيبة يتهم بالزندقة و يقولون كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا
خير فيه قلت و يقال هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة فإنه خطيب السنة كما أن
الجاحظ خطيب المعتزلة ) انتهى من تفسير سورة الإخلاص .
وأما قوله ( وفارسهم
خالد بن الوليد ) فغير مسلم علي فضل خالد وعلو مكانته في الإسلام ؛ قال النبي ( صلَّي
الله عليه وسلم ) : ( خير فرساننا اليوم أبو قتادة ) رواه مسلم ، وقال ( أبو قتادة
سيد الفرسان ) رواه الحاكم في الإكليل والبيهقي من طريق عكرمة بن قتادة بن عبد
الله بن عكرمة بن عبد الله بن أبي قتادة حدثني أبي عن أبيه عن عبد الله بن أبي
قتادة به .
وقال ابن عبد البر
في ( الاستيعاب ) :" يقال لأبي قتادة فارس رسول الله " اهـ وكذلك في (
الإصابة )لابن حجر وغيره .
والله تعالى أعلم
وصلي الله وسلم علي نبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1] - هو أبو الحسن علي بن هلال المشهور بابن البواب
توفي سنة 413 هـ وقيل : 410 هـ وقيل : 423 هـ ، خطاط معروف ، هذب طريقة ابن مقلة
وزادها بهجة ورونقاً وكتب بيده المصحف أربعاً وستين مرة ، رثاه الشريف المرتضي
الشيعي ! بقصيدة حسنة . واخباره في وفيات الأعيان 1: 345 ومفتاح السعادة 1: 77 والبداية والنهاية 12: 14
وسير أعلام النبلاء 17 / 318 – 320 .
[2] - وذلك عندما ترقبه ليسأله عن المرأتين اللتين قال الله فيهما : ((إِنْ
تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ
))الآية .انظر تفسير الطبري ( 23 / 484 -485 ) وتفسير البغوي ( 8 / 165 ) وتفسير
ابن كثير ( 8 / 146 ) والخبر أصله في البخاري (4913 ) ومسلم (1479 ).
[3] - منهاج السنة [ 4 / 265 - 266 ] .
[4] - مجموع
الفتاوى ( 17 / 391 – 392 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق