ثم أجاب فقال: ((فأجبت بعون الله تعالى فقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الهادي إلى الصواب ، والصلاة والسلام على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب ، وعلى آله وأصحابه الذين هداهم الله ورزقهم التوفيق والسداد ، أما بعد ، فالحكم أن هذا الاعتقاد باطل ومعتقده كافر بإجماع من يعتد به من علماء المسلمين ، والدليل العقلي على ذلك : قدم الله تعالى ومخالفته للحوادث ، والنقلي قال تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) فكل من اعتقد أنه تعالى حل في مكان أو اتصل به أو بشيء من الحوادث كالعرش أوالكرسي أو السماء أو الأرض أو غير ذلك فهو كافر قطعاً ))اهـ
قلت :هذا دأبهم في التلبيس والتدليس يطلقون أحكاماً علي الأمور التي لا خلاف فيها حتي يتوهم الجهلة والغفل أن تلك الأحكام تشتمل أهل السنة أتباع السلف وإلا فمن قال من أتباع السلف إن الله تعالى حل في مكان أو اتصل بشيء من الحوادث المخلوقة ؟ نبؤني بعلم إن كنتم صادقين قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( مجموع الفتاوى 1 / 376 ) : ((وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ليس فى مخلوقاته شىء من ذاته ولا فى ذاته شىء من مخلوقاته وهو سبحانه غنى عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر الى شىء من مخلوقاته بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة العرش )) اهـ وحكى على ذلك إجماع السلف ( 2 / 126 ) .ونقل عن الهروي قال :أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية حدثنا علي بن الحسن السلمي سمعت أبي يقول حبس هشام بن عبيد الله وهو الرازي صاحب محمد بن الحسن الشيباني رجلاً في التجهم فتاب فجئ به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه فقال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب "اهـ من بيان تلبيس الجهمية .
ثم قال : ((وأما حمله الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد المكفر وقوله لهم من لم يعتقد ذلك يكون كافراً !! فهو كفر وبهتان عظيم ، واستدلاله على زعمه الباطل بهاتين الآيتين ونحوهما أن الله عز وجل يحل في عرشه أو يجلس عليه أو يحل في سماء أو نحو ذلك مما تزعمه تلك الشرذمة ))انتهى
قلت : تقدم أن الله لا يحل في شيء من خلقه ولا يحل فيه شيء من خلقه وإنما له العلو المطلق علي جميع مخلوقاته وهو فوق العرش غنياً عن العرش وغيره وأما الجلوس على العرش فهو حرف لم يقله السلف ابتداء إنما قالوا في الاستواء أنه معلوم المعني كما قال مالك الإمام : (( الاستواء معلوم )) ومعناه عندهم على أربعة أوجه قال ابن القيم :
فلهم عبارات عليها أربع قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك ار تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو أربع وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن
والأشعري يقول تفسير استوى بحقيقة استولى من البهتان
هو قول أهل الاعتزال وقول أتباع لجهم وهو ذو بطلان
وقالوا في قوله تعالى (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) إنه الله تعالى و( في السماء ) أي علي السماء كما قال فرعون ( لأصلبنكم في جذوع النخل )[ طه : 71 ] أي علي جذوع النخل وكما قال تعالى ( قل سيروا في الأرض ) أي عليها ولم يقل أحد من السلف عن الله في السماء أي تحتويه السماء أو داخل فيها بل هذا كفر بإجماعهم .
ثم قال : (( مع أن كلام الله غير مخلوق وهو من صفات الله تعالى القديمة الموجودة قبل وجود العرش والسماوات ، فالله تعالى موصوف بأنه استوى على العرش قبل وجود العرش ، وهل كان جالساً ـ على زعمهم ـ على العرش المعدوم قبل وجوده ؟؟!! ))اهـ
قلت :أما قوله ( بأن كلام الله غير مخلوق وهو من صفات الله القديمة ) قاصداً بذلك المعنى النفسي كما تزعم الأشاعرة فباطل كسائر كلامه فإنهم كما قال الموفق ابن قدامة لم يتنازعوا في الكلام النفسي ! في زمن المحنة ولا في غيرها بل لم يخطر ببالهم التنازع في صفة الله القائمة بذاته إنما تنازع الناس في القرآن الذي بين أيديهم المتلو على ألسنتهم المحفوظ في صدورهم ولم يقل واحد منهم إن صفة الله ( الكلام ) القائمة به مخلوقة .
وأما ادعاؤه أنهم يقولون إن الله جالس على العرش فيقال :هل قالوا أيها البقباق النفاج إنه تعالى جالس علي العرش قبل وجوده ؟! إنما قولهم ( إنه استوى علي العرش ) كما قال لا يتعدون النص ما ذنبهم إذ قالوا ما قال ربهم فالله أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش وهو من قبل ومن بعد فوق خلقه جميعاً العرش وغيره وأما قبل العرش فإنه فوق خلقه ولما خلق العرش كان فوق خلقه وفوق العرش الذي هو أعلى مملكته سبحانه وتعالى .ومن قال منهم إنه جالس على العرش قاله إمعاناً في مخالفة الجهمية نفاة الاستواء أو مؤولته .
ثم قال : ((وهل جل جلاله في السماء قبل خلق السماء ؟؟!! هذا مما لا يتوهمه عاقل ، وهل العقل يصدق بحلول القديم في شيء من الحوادث ؟؟!! ))اهـ
قلت :هذا عدو نفسه لم يجد له خصيماً فخاصم نفسه لم يقل أحد إنه داخل السماء ليقول هذا المماري المتعالي ذلك الكلام .
ثم قال : ((وعلى الجملة ! فهذا القائل المجازف وأمثاله قد ادعوا ما لا يقبل الثبوت لا عقلا ولا نقلا ، وقد كفروا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، والطامة الكبرى التي نـزلت بهؤلاء دعواهم أنهم ( سلفيون ) !!!!! ، وهم عن سبيل الحق زائغون ، وعلى خيار المسلمين يعيبون ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وأما مذهب السلف والخلف بالنسبة للآيات والأحاديث المتشابهة فقد اتفق الكل على أن الله تعالى منـزه عن صفات الحوادث ، فليس له عز وجل مكان في العرش ولا في السماء ولا في غيرهما ، ولا يتصف بالحلول في شيء من الحوادث ، ولا بالاتصال بشيء منها ، ولا بالتحول والانتقال ونحوهما من صفات الحوادث ، بل هو سبحانه وتعالى على ما كان عليه قبل خلق العرش والكرسي والسماوات وغيرها من الحوادث ، ( قال الحافظ في الفتح ) : (( اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير )) اهـ .
وإنما اختلفوا في بيان المعنى المراد من هذه الآيات والأحاديث ، فالسلف رضي الله عنهم يؤمنون بها كما وردت معتقدين أنها مصروفة عن ظاهرها لقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ويفوضون علم المراد منها إلى الله تعالى لقوله :" وما يعلم تأويله إلا الله " ))اهـ
قلت : وهذا كذب على السلف وتجهيل لهم قال شيخ الإسلام ( مجموع الفتاوى 13 / 294 - 299 ) :" وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك فى المتشابه الذى لا يعلم تأويله الا الله أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذى استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم فإنهم وان أصابوا فى كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم فالكلام على هذا من وجهين :
الأول :من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه فنقول أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل فى هذه الآية ونفى أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمى الذى لا يفهم ولا قالوا ان الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة قالوا فى أحاديث الصفات تمر كما جاءت ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التى مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة فى أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ويفهمون منها بعض ما دلت عليه كما يفهمون ذلك فى سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك وأحمد قد قال فغير أحاديث الصفات تمر كما جاءت وفى أحاديث الوعيد مثل قوله من غشنا فليس منا وأحاديث الفضائل ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل وكذلك نص أحمد فى كتاب الرد على الزنادقة والجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن وتكلم أحمد على ذلك المتشابه وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية وجرى فى ذلك على سنن الأئمة قبله فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو إلحاد فى أسماء الله وآياته ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب أن أهل السنة متفقون على ابطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين و التأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره الى ما يخالف ظاهره فلو قيل ان هذا هو التأويل المذكور فى الاية وأنه لا يعلمه الا الله لكان فى هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلاً يخالف دلالتها لكن ذلك لا يعلمه إلا الله وليس هذا مذهب السلف والأئمة وإنما مذهبهم نفى هذه التأويلات وردها لا التوقف فيها وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعانى لا تحرف ولا يلحد فيها . والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه أن نقول لا ريب أن الله سمى نفسه فى القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرءوف ونحو ذلك ووصف نفسه بصفات مثل سورة الاخلاص و آية الكرسى وأول الحديد وآخر الحشر وقوله ان الله بكل شىء عليم و على كل شىء قدير وأنه يحب المتقين و المقسطين و المحسنين وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلما آسفونا انتقمنا منهم ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله ولكن كره الله انبعاثهم الرحمن على العرش استوى ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم وهو الذى فى السماء اله وفى الأرض اله وهو الحكيم العليم اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه إننى معكما أسمع وأرى وهو الله فى السموات وفى الأرض ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام يريدون وجهه ولتصنع على عينى الى امثال ذلك فيقال لمن ادعى فى هذا أنه متشابه لا يعلم معناه أتقول هذا فى جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم فى البعض فان قلت هذا فى الجميع كان هذا عنادا ظاهرا وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام بل كفر صريح فانا نفهم من قوله إن الله بكل شىء عليم معنى ونفهم من قوله ان الله على كل شىء قدير معنى ليس هو الأول ونفهم من قوله ورحمتى وسعت كل شىء معنى ونفهم من قوله إن الله عزيز ذو انتقام معنى وصبيان المسلمين بل وكل عاقل يفهم هذا وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه الى الحديث لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة من يقول إنا نسمى الله الرحمن العليم القدير علماً محضاً من غير أن نفهم منه معنى يدل على شىء قط وكذلك فى قوله ولا يحيطون بشىء من علمه يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم وهذا الغلو فى الظاهر من جنس غلو القرامطة فى الباطن لكن هذا أيبس وذاك أكفر ثم يقال لهذا المعاند فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود وعل حق موجود أم لا فان قال لا كان معطلاً محضاً وما أعلم مسلماً يقول هذا وإن قال نعم قيل له فلم فهمت منها دلالتها على نفس الرب ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعانى من الرحمة والعلم وكلاهما فى الدلالة سواء فلابد أن يقول نعم لأن ثبوت الصفات محال فى العقل لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث بخلاف الذات فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثانى كما سنذكره وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض فيقال له ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة بخلاف الآخر أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب اثباته دون الآخر وكلا الوجهين باطل فى أكثر المواضع أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير على عظيم كدلالته على أنه عليم قدير ليس بينهما فرق من جهة النص وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته وأما الثانى فيقال لمن أثبت شيئا ونفى آخر لم نفيت مثلاً حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك الى إرادته فإن قال لأن المعنى المفهوم من الرحمة فى حقنا هى رقة تمتنع على الله قيل له والمعنى المفهوم من الإرادة فى حقنا هى ميل يمتنع على الله فإن قال إرادته ليست من جنس إرادة خلقه قيل له ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه ...))اهـ
والعجب من هؤلاء يصفون أهل السنة بالحشوية ثم يقولون ومنهم الرازي في المحصول والجويني في البرهان ومن تبعهما يقولون إن الحشوية يقولون إن في القرآن حشواً لا معنى له وهذا لم يقله السلف ( من القائلين بذلك عبد الجبار والقاضي أبو الحسين البصري ) إنما قولوه للسلف ثم عابوه عليهم حتى إن السبكي قد استحيا من ذلك الخزي فقال وما أصفق وجهه! ( الإبهاج 1 / 361 ): ((وقيل المراد بالحشوية الطائفة الذين لا يرون البحث في آيات الصفات التي يتعدد إجراؤها على ظاهرها بل يؤمنون بما أراده الله مع جزمهم المعتقد بأن الظاهر غير مراد ولكنهم يفوضون التأويل إلى الله سبحانه وتعالى وعلى هذا فإطلاق الحشوية عليهم غير مستحسن لعدم مناسبته لمعتقدهم ولأن ذلك مذهب طوائف السلف من أهل السنة رضي الله عنهم ))انتهى
وأما قوله بنفي الانتقال والحركة على الله فهو من كلام المعتزلة مخانيث الفلاسفة حكاه عنهم الأشعري وغيره في المقالات مع العلم أن السلف لم يطلقوا على الله أنه يتحرك أو ينتقل وإنما قالوه مشاكلة للمعتزلة الذين نفوا ذلك تذرعاً لنفي نزوله سبحانه وتعالى فقابل السلف ذلك بنقضه ونفيه لان فيه تذرعاً إلى إبطال الصفات كالاستواء والنزول والمجئ بل والحياة قال الدارمي في نقضه على بشر المريسي ( نقض الدارمي 1 / 215 – 216 ) :" وأما دعواك أن تفسير القيوم الذي لا يزول من مكانه ولا يتحرك فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله أو عن بعض أصحابه أو التابعين لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك كل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة . ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذا فسر نزوله مشروحا منصوصا ووقت لنزوله وقتاً مخصوصاً لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبساً ولا عويصاً "اهـ
وذا قال الفضيل بن عياض ( خلق أفعال العباد للبخاري : ص 19 ) : إذا قال لك جهمي : أنا أكفر برب يزول عن مكانه ، فقل : أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء .
ثم قال ذلك السبكي : (( فيقولون في آية ( الرحمن على العرش استوى ) استوى استواء يليق به لا يعلمه إلا هو عز وجل ، وفي آية ( ءأمنتم من في السماء ) نؤمن بها على المعنى الذي أراده سبحانه وتعالى مع كمال التنـزيه عن صفات الحوادث والحلول ويقولون في آية ( يد الله فوق أيديهم ) له يد لا كأيدينا ولا يعلمها إلا هو تعالى ، وهكذا في سائر الآيات المتشابهة ، قال الإمام الجليل السلفي ابن كثير في الجزء الثالث من تفسيره صفحة 488 ما نصه : (( وأما قوله تعالى : ( ثم استوى على العرش ) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها ، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال : من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى ))انتهى
قلت :وهذا ليس فيه أدنى حجة لكم . والسلف إذ تكلموا في الاستواء تكلموا بما تفهمه العامة وتعقله وعليه أنزل الله الكتاب لم ينزله طلاسم لا يدريها أحد كما يقول بعضهم ولا أنزله مباحث لا يخبرها غير فئة قليلة من الخاصة كما تقول الباطنية إنما أنزله بما يفهم ولذا قال ابن عيينة : تفسيره تلاوته . أي أنه غير مشكل ولا غائر المعنى لتتكلفوا تأويله ولذا جميع آيات الصفات لم يعدها المصنفون في الغريب من الغريب إنما هي من البين السهل القريب ولذا قال يزيد بن هارون ( خلق أفعال العباد :ص 19 ):" من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي "اهـ
فالرب رب واحد وكتابه حق وفهم الحق منه دانِ
ورسوله قد أوضح الحق المبين بغاية الايضاح والتبيانِ
ما ثم أوضح من عبارته فلا يحتاج سامعها إلى تبيانِ
ثم قال السبكي الجهمي الذي لا يدري من يعبد : ((ويقولون في حديث ( ينـزول ربنا إلى سماء الدنيا ) ينـزل نزولاً يليق به لا يعلمه إلا هو تعالى ، وأما حديث الجارية وهو ما أخرجه مسلم وأبو داود في باب نسخ الكلام في الصلاة من طريق معاوية بن الحكم ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية : ( أين الله ؟ ) قالت : ( في السماء ) قال : ( من أنا ؟ ) قالت : ( أنت رسول الله ) قال أعتقها فإنها مؤمنة ، فيقولون فيه ما قالوه في آية ( ءأمنتم من في السماء ) وهكذا سائر أحاديث الصفات المتشابهة ، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ) قالوا الوقف هنا تام ، وأما الراسخون في العلم إلخ فكلام مستأنف لبيان أن أكابر ذوي العلم مصدقون بثبوت المتشابه في القرآن ))انتهى
قلت : تقدم الكلام عن كون آيات الصفات ليست من المتشابه الذي هو عند السبكي من الذي لا معني له وإنما أنزله الله لتتلوه الألسنة ولا تفهم منه شيئاً كالكلام الأعجمي .
ثم قال : ((وأما الخلف رحمهم الله تعالى فيقولون في هذه الآيات والأحاديث هي معروفة المعنى ، فمعنى ( الرحمن على العرش استوى ) استولى بالقهر والتصرف ، ومعنى ( ءأمنتم من في السماء ) من في السماء عذابه أو سلطانه ومصدر أمره ، أو هو كناية عن تعظيم الله تعالى بوصفه بالعلو والعظمة ، وتنـزيهه عن السفل والتحت لا أنه سبحانه وتعالى حال فيها !! لأن الحلول من صفات الأجسام وأمارات الحدوث والله منـزه عن ذلك ، ومعنى ( ينـزل ربنا إلى سماء الدنيا ) ينـزل رسوله أو رحمته ، وأما إقرار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الجارية على إشارتها نحو السماء فاكتفاء منها بما يدل على عدم شركها لتعتق ، لأنه بإشارتها إلى السماء علم أنها ليست ممن يعبد الأصنام التي في الأرض ، وهكذا في سائر الآيات والأحاديث بناء منهم على كون الوقف في الآية الشريفة على قوله تعالى ( والراسخون في العلم ) مستدلين على ذلك بكون القرآن عربياً ، ولغة العرب ناطقة بتلك المعاني ، والفضل الزائد للسلف ))انتهى
قلت : قولهم استوى بمعني ( استولى ) مما لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة ولا من لغة ولا عقل صحيح قال الإمام عبد العزيز الكناني وهو من قدماء أصحاب الشافعي الذي اتفقت جميع الطوائف علي تعظيمه : ((زعمت الجهمية في قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] إنما المعنى استولى كقول العرب : استوى فلان على مصر استوى فلان على الشام يريد استولى عليها ) قال : ( فيقال له : هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه فإذا قال : لا قيل له : فمن زعم ذلك ؟ فمن قوله : من زعم ذلك فهو كافر يقال له : يلزمك أن تقول : إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه وذلك أن الله تبارك وتعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض .
قال الله عز وجل : { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] فأخبر أن العرش كان على الماء قبل السماوات والأرض .
ثم قال : { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } [ الفرقان : 59 ] وقوله : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم } [ غافر : 7 ] وقوله : { استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } [ البقرة : 29 ] وقوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] فأخبر أنه استوى على العرش فيلزمك أن تقول : المدة التي كان على العرش فيها قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه إذ كان استوى على العرش معناه عندك : استولى فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله وقد روى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا : قد بشرتنا فأعطنا قال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا : قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان قال : كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء ] وروي [ عن أبي رزين - وكان يجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته أنه قال : يا رسول الله كان ربنا قبل أن يخلق السماوات قال : ( فقال الجهمي : أخبرني كيف استوى على العرش ؟ أهو كما يقال : استوى فلان على السرير فيكون السرير قد حوى فلاناً وحده إذا كان عليه فيلزمك أن تقول : إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا قال : فيقال له : أما قولك : كيف استوى ؟ فإن الله لا يجري عليه : كيف وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنهم لم يخبرهم كيف ذلك ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله ولكن يلزمك أيها الجهمي أن تقول : إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه كما تقول العرب : فلان في البيت والماء في الجب فالبيت قد حوى فلاناً والجب قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا : إن الله عز وجل في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد فكفروا بذلك وقيل لهم : ما أعظم الله إذ جعلتموه في بطن مريم ! وأنتم تقولون : إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضاً أن تقول : إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أن الله في كل مكان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ! فلما شنعت مقالته قال : أقول : إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء خارجاً عن الشيء ولا مبايناً للشيء قال : فيقال له : أصل قولك : القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئاً لأنه لو كان شيئا داخلاً فمن القياس والمعقول أن يكون داخلاً في الشيء أو خارجاً منه فلما لم يكن في قولك شيئاً استحال أن يكون كالشيء في الشيء أو خارجاً من الشيء فوصفت لعمري ملتبساً لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك : التعطيل )]انتهى
وأما قوله في حديث الجارية فمن الهذيان وإن هذا يذكر بقول أبي حنيفة : إني لا أناظر الرجل حتى ينقطع إنما أناظره حتى يجن قالوا : كيف ذلك ؟ قال : يقول ما لم يقله أحد . ولعمر الله إن هذا مما لم يقله أحد بل ومن أبعد الأشياء عن الفطرة والمعقول فالرسول يقول ( أين الله ؟ ) والجارية تقول في السماء ولو كان كما يقول ذلك الأحمق لكان السؤال : من تعبدين ؟! كما هو بين .
قلت :هذا دأبهم في التلبيس والتدليس يطلقون أحكاماً علي الأمور التي لا خلاف فيها حتي يتوهم الجهلة والغفل أن تلك الأحكام تشتمل أهل السنة أتباع السلف وإلا فمن قال من أتباع السلف إن الله تعالى حل في مكان أو اتصل بشيء من الحوادث المخلوقة ؟ نبؤني بعلم إن كنتم صادقين قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( مجموع الفتاوى 1 / 376 ) : ((وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ليس فى مخلوقاته شىء من ذاته ولا فى ذاته شىء من مخلوقاته وهو سبحانه غنى عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر الى شىء من مخلوقاته بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة العرش )) اهـ وحكى على ذلك إجماع السلف ( 2 / 126 ) .ونقل عن الهروي قال :أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية حدثنا علي بن الحسن السلمي سمعت أبي يقول حبس هشام بن عبيد الله وهو الرازي صاحب محمد بن الحسن الشيباني رجلاً في التجهم فتاب فجئ به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه فقال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب "اهـ من بيان تلبيس الجهمية .
ثم قال : ((وأما حمله الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد المكفر وقوله لهم من لم يعتقد ذلك يكون كافراً !! فهو كفر وبهتان عظيم ، واستدلاله على زعمه الباطل بهاتين الآيتين ونحوهما أن الله عز وجل يحل في عرشه أو يجلس عليه أو يحل في سماء أو نحو ذلك مما تزعمه تلك الشرذمة ))انتهى
قلت : تقدم أن الله لا يحل في شيء من خلقه ولا يحل فيه شيء من خلقه وإنما له العلو المطلق علي جميع مخلوقاته وهو فوق العرش غنياً عن العرش وغيره وأما الجلوس على العرش فهو حرف لم يقله السلف ابتداء إنما قالوا في الاستواء أنه معلوم المعني كما قال مالك الإمام : (( الاستواء معلوم )) ومعناه عندهم على أربعة أوجه قال ابن القيم :
فلهم عبارات عليها أربع قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك ار تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو أربع وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن
والأشعري يقول تفسير استوى بحقيقة استولى من البهتان
هو قول أهل الاعتزال وقول أتباع لجهم وهو ذو بطلان
وقالوا في قوله تعالى (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) إنه الله تعالى و( في السماء ) أي علي السماء كما قال فرعون ( لأصلبنكم في جذوع النخل )[ طه : 71 ] أي علي جذوع النخل وكما قال تعالى ( قل سيروا في الأرض ) أي عليها ولم يقل أحد من السلف عن الله في السماء أي تحتويه السماء أو داخل فيها بل هذا كفر بإجماعهم .
ثم قال : (( مع أن كلام الله غير مخلوق وهو من صفات الله تعالى القديمة الموجودة قبل وجود العرش والسماوات ، فالله تعالى موصوف بأنه استوى على العرش قبل وجود العرش ، وهل كان جالساً ـ على زعمهم ـ على العرش المعدوم قبل وجوده ؟؟!! ))اهـ
قلت :أما قوله ( بأن كلام الله غير مخلوق وهو من صفات الله القديمة ) قاصداً بذلك المعنى النفسي كما تزعم الأشاعرة فباطل كسائر كلامه فإنهم كما قال الموفق ابن قدامة لم يتنازعوا في الكلام النفسي ! في زمن المحنة ولا في غيرها بل لم يخطر ببالهم التنازع في صفة الله القائمة بذاته إنما تنازع الناس في القرآن الذي بين أيديهم المتلو على ألسنتهم المحفوظ في صدورهم ولم يقل واحد منهم إن صفة الله ( الكلام ) القائمة به مخلوقة .
وأما ادعاؤه أنهم يقولون إن الله جالس على العرش فيقال :هل قالوا أيها البقباق النفاج إنه تعالى جالس علي العرش قبل وجوده ؟! إنما قولهم ( إنه استوى علي العرش ) كما قال لا يتعدون النص ما ذنبهم إذ قالوا ما قال ربهم فالله أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش وهو من قبل ومن بعد فوق خلقه جميعاً العرش وغيره وأما قبل العرش فإنه فوق خلقه ولما خلق العرش كان فوق خلقه وفوق العرش الذي هو أعلى مملكته سبحانه وتعالى .ومن قال منهم إنه جالس على العرش قاله إمعاناً في مخالفة الجهمية نفاة الاستواء أو مؤولته .
ثم قال : ((وهل جل جلاله في السماء قبل خلق السماء ؟؟!! هذا مما لا يتوهمه عاقل ، وهل العقل يصدق بحلول القديم في شيء من الحوادث ؟؟!! ))اهـ
قلت :هذا عدو نفسه لم يجد له خصيماً فخاصم نفسه لم يقل أحد إنه داخل السماء ليقول هذا المماري المتعالي ذلك الكلام .
ثم قال : ((وعلى الجملة ! فهذا القائل المجازف وأمثاله قد ادعوا ما لا يقبل الثبوت لا عقلا ولا نقلا ، وقد كفروا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، والطامة الكبرى التي نـزلت بهؤلاء دعواهم أنهم ( سلفيون ) !!!!! ، وهم عن سبيل الحق زائغون ، وعلى خيار المسلمين يعيبون ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وأما مذهب السلف والخلف بالنسبة للآيات والأحاديث المتشابهة فقد اتفق الكل على أن الله تعالى منـزه عن صفات الحوادث ، فليس له عز وجل مكان في العرش ولا في السماء ولا في غيرهما ، ولا يتصف بالحلول في شيء من الحوادث ، ولا بالاتصال بشيء منها ، ولا بالتحول والانتقال ونحوهما من صفات الحوادث ، بل هو سبحانه وتعالى على ما كان عليه قبل خلق العرش والكرسي والسماوات وغيرها من الحوادث ، ( قال الحافظ في الفتح ) : (( اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير )) اهـ .
وإنما اختلفوا في بيان المعنى المراد من هذه الآيات والأحاديث ، فالسلف رضي الله عنهم يؤمنون بها كما وردت معتقدين أنها مصروفة عن ظاهرها لقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ويفوضون علم المراد منها إلى الله تعالى لقوله :" وما يعلم تأويله إلا الله " ))اهـ
قلت : وهذا كذب على السلف وتجهيل لهم قال شيخ الإسلام ( مجموع الفتاوى 13 / 294 - 299 ) :" وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك فى المتشابه الذى لا يعلم تأويله الا الله أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذى استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم فإنهم وان أصابوا فى كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم فالكلام على هذا من وجهين :
الأول :من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه فنقول أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل فى هذه الآية ونفى أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمى الذى لا يفهم ولا قالوا ان الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة قالوا فى أحاديث الصفات تمر كما جاءت ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التى مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة فى أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ويفهمون منها بعض ما دلت عليه كما يفهمون ذلك فى سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك وأحمد قد قال فغير أحاديث الصفات تمر كما جاءت وفى أحاديث الوعيد مثل قوله من غشنا فليس منا وأحاديث الفضائل ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل وكذلك نص أحمد فى كتاب الرد على الزنادقة والجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن وتكلم أحمد على ذلك المتشابه وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية وجرى فى ذلك على سنن الأئمة قبله فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو إلحاد فى أسماء الله وآياته ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب أن أهل السنة متفقون على ابطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين و التأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره الى ما يخالف ظاهره فلو قيل ان هذا هو التأويل المذكور فى الاية وأنه لا يعلمه الا الله لكان فى هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلاً يخالف دلالتها لكن ذلك لا يعلمه إلا الله وليس هذا مذهب السلف والأئمة وإنما مذهبهم نفى هذه التأويلات وردها لا التوقف فيها وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعانى لا تحرف ولا يلحد فيها . والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه أن نقول لا ريب أن الله سمى نفسه فى القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرءوف ونحو ذلك ووصف نفسه بصفات مثل سورة الاخلاص و آية الكرسى وأول الحديد وآخر الحشر وقوله ان الله بكل شىء عليم و على كل شىء قدير وأنه يحب المتقين و المقسطين و المحسنين وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلما آسفونا انتقمنا منهم ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله ولكن كره الله انبعاثهم الرحمن على العرش استوى ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم وهو الذى فى السماء اله وفى الأرض اله وهو الحكيم العليم اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه إننى معكما أسمع وأرى وهو الله فى السموات وفى الأرض ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام يريدون وجهه ولتصنع على عينى الى امثال ذلك فيقال لمن ادعى فى هذا أنه متشابه لا يعلم معناه أتقول هذا فى جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم فى البعض فان قلت هذا فى الجميع كان هذا عنادا ظاهرا وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام بل كفر صريح فانا نفهم من قوله إن الله بكل شىء عليم معنى ونفهم من قوله ان الله على كل شىء قدير معنى ليس هو الأول ونفهم من قوله ورحمتى وسعت كل شىء معنى ونفهم من قوله إن الله عزيز ذو انتقام معنى وصبيان المسلمين بل وكل عاقل يفهم هذا وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه الى الحديث لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة من يقول إنا نسمى الله الرحمن العليم القدير علماً محضاً من غير أن نفهم منه معنى يدل على شىء قط وكذلك فى قوله ولا يحيطون بشىء من علمه يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم وهذا الغلو فى الظاهر من جنس غلو القرامطة فى الباطن لكن هذا أيبس وذاك أكفر ثم يقال لهذا المعاند فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود وعل حق موجود أم لا فان قال لا كان معطلاً محضاً وما أعلم مسلماً يقول هذا وإن قال نعم قيل له فلم فهمت منها دلالتها على نفس الرب ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعانى من الرحمة والعلم وكلاهما فى الدلالة سواء فلابد أن يقول نعم لأن ثبوت الصفات محال فى العقل لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث بخلاف الذات فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثانى كما سنذكره وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض فيقال له ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة بخلاف الآخر أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب اثباته دون الآخر وكلا الوجهين باطل فى أكثر المواضع أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير على عظيم كدلالته على أنه عليم قدير ليس بينهما فرق من جهة النص وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته وأما الثانى فيقال لمن أثبت شيئا ونفى آخر لم نفيت مثلاً حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك الى إرادته فإن قال لأن المعنى المفهوم من الرحمة فى حقنا هى رقة تمتنع على الله قيل له والمعنى المفهوم من الإرادة فى حقنا هى ميل يمتنع على الله فإن قال إرادته ليست من جنس إرادة خلقه قيل له ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه ...))اهـ
والعجب من هؤلاء يصفون أهل السنة بالحشوية ثم يقولون ومنهم الرازي في المحصول والجويني في البرهان ومن تبعهما يقولون إن الحشوية يقولون إن في القرآن حشواً لا معنى له وهذا لم يقله السلف ( من القائلين بذلك عبد الجبار والقاضي أبو الحسين البصري ) إنما قولوه للسلف ثم عابوه عليهم حتى إن السبكي قد استحيا من ذلك الخزي فقال وما أصفق وجهه! ( الإبهاج 1 / 361 ): ((وقيل المراد بالحشوية الطائفة الذين لا يرون البحث في آيات الصفات التي يتعدد إجراؤها على ظاهرها بل يؤمنون بما أراده الله مع جزمهم المعتقد بأن الظاهر غير مراد ولكنهم يفوضون التأويل إلى الله سبحانه وتعالى وعلى هذا فإطلاق الحشوية عليهم غير مستحسن لعدم مناسبته لمعتقدهم ولأن ذلك مذهب طوائف السلف من أهل السنة رضي الله عنهم ))انتهى
وأما قوله بنفي الانتقال والحركة على الله فهو من كلام المعتزلة مخانيث الفلاسفة حكاه عنهم الأشعري وغيره في المقالات مع العلم أن السلف لم يطلقوا على الله أنه يتحرك أو ينتقل وإنما قالوه مشاكلة للمعتزلة الذين نفوا ذلك تذرعاً لنفي نزوله سبحانه وتعالى فقابل السلف ذلك بنقضه ونفيه لان فيه تذرعاً إلى إبطال الصفات كالاستواء والنزول والمجئ بل والحياة قال الدارمي في نقضه على بشر المريسي ( نقض الدارمي 1 / 215 – 216 ) :" وأما دعواك أن تفسير القيوم الذي لا يزول من مكانه ولا يتحرك فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله أو عن بعض أصحابه أو التابعين لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك كل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة . ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذا فسر نزوله مشروحا منصوصا ووقت لنزوله وقتاً مخصوصاً لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبساً ولا عويصاً "اهـ
وذا قال الفضيل بن عياض ( خلق أفعال العباد للبخاري : ص 19 ) : إذا قال لك جهمي : أنا أكفر برب يزول عن مكانه ، فقل : أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء .
ثم قال ذلك السبكي : (( فيقولون في آية ( الرحمن على العرش استوى ) استوى استواء يليق به لا يعلمه إلا هو عز وجل ، وفي آية ( ءأمنتم من في السماء ) نؤمن بها على المعنى الذي أراده سبحانه وتعالى مع كمال التنـزيه عن صفات الحوادث والحلول ويقولون في آية ( يد الله فوق أيديهم ) له يد لا كأيدينا ولا يعلمها إلا هو تعالى ، وهكذا في سائر الآيات المتشابهة ، قال الإمام الجليل السلفي ابن كثير في الجزء الثالث من تفسيره صفحة 488 ما نصه : (( وأما قوله تعالى : ( ثم استوى على العرش ) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها ، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال : من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى ))انتهى
قلت :وهذا ليس فيه أدنى حجة لكم . والسلف إذ تكلموا في الاستواء تكلموا بما تفهمه العامة وتعقله وعليه أنزل الله الكتاب لم ينزله طلاسم لا يدريها أحد كما يقول بعضهم ولا أنزله مباحث لا يخبرها غير فئة قليلة من الخاصة كما تقول الباطنية إنما أنزله بما يفهم ولذا قال ابن عيينة : تفسيره تلاوته . أي أنه غير مشكل ولا غائر المعنى لتتكلفوا تأويله ولذا جميع آيات الصفات لم يعدها المصنفون في الغريب من الغريب إنما هي من البين السهل القريب ولذا قال يزيد بن هارون ( خلق أفعال العباد :ص 19 ):" من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي "اهـ
فالرب رب واحد وكتابه حق وفهم الحق منه دانِ
ورسوله قد أوضح الحق المبين بغاية الايضاح والتبيانِ
ما ثم أوضح من عبارته فلا يحتاج سامعها إلى تبيانِ
ثم قال السبكي الجهمي الذي لا يدري من يعبد : ((ويقولون في حديث ( ينـزول ربنا إلى سماء الدنيا ) ينـزل نزولاً يليق به لا يعلمه إلا هو تعالى ، وأما حديث الجارية وهو ما أخرجه مسلم وأبو داود في باب نسخ الكلام في الصلاة من طريق معاوية بن الحكم ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية : ( أين الله ؟ ) قالت : ( في السماء ) قال : ( من أنا ؟ ) قالت : ( أنت رسول الله ) قال أعتقها فإنها مؤمنة ، فيقولون فيه ما قالوه في آية ( ءأمنتم من في السماء ) وهكذا سائر أحاديث الصفات المتشابهة ، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ) قالوا الوقف هنا تام ، وأما الراسخون في العلم إلخ فكلام مستأنف لبيان أن أكابر ذوي العلم مصدقون بثبوت المتشابه في القرآن ))انتهى
قلت : تقدم الكلام عن كون آيات الصفات ليست من المتشابه الذي هو عند السبكي من الذي لا معني له وإنما أنزله الله لتتلوه الألسنة ولا تفهم منه شيئاً كالكلام الأعجمي .
ثم قال : ((وأما الخلف رحمهم الله تعالى فيقولون في هذه الآيات والأحاديث هي معروفة المعنى ، فمعنى ( الرحمن على العرش استوى ) استولى بالقهر والتصرف ، ومعنى ( ءأمنتم من في السماء ) من في السماء عذابه أو سلطانه ومصدر أمره ، أو هو كناية عن تعظيم الله تعالى بوصفه بالعلو والعظمة ، وتنـزيهه عن السفل والتحت لا أنه سبحانه وتعالى حال فيها !! لأن الحلول من صفات الأجسام وأمارات الحدوث والله منـزه عن ذلك ، ومعنى ( ينـزل ربنا إلى سماء الدنيا ) ينـزل رسوله أو رحمته ، وأما إقرار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الجارية على إشارتها نحو السماء فاكتفاء منها بما يدل على عدم شركها لتعتق ، لأنه بإشارتها إلى السماء علم أنها ليست ممن يعبد الأصنام التي في الأرض ، وهكذا في سائر الآيات والأحاديث بناء منهم على كون الوقف في الآية الشريفة على قوله تعالى ( والراسخون في العلم ) مستدلين على ذلك بكون القرآن عربياً ، ولغة العرب ناطقة بتلك المعاني ، والفضل الزائد للسلف ))انتهى
قلت : قولهم استوى بمعني ( استولى ) مما لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة ولا من لغة ولا عقل صحيح قال الإمام عبد العزيز الكناني وهو من قدماء أصحاب الشافعي الذي اتفقت جميع الطوائف علي تعظيمه : ((زعمت الجهمية في قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] إنما المعنى استولى كقول العرب : استوى فلان على مصر استوى فلان على الشام يريد استولى عليها ) قال : ( فيقال له : هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه فإذا قال : لا قيل له : فمن زعم ذلك ؟ فمن قوله : من زعم ذلك فهو كافر يقال له : يلزمك أن تقول : إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه وذلك أن الله تبارك وتعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض .
قال الله عز وجل : { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] فأخبر أن العرش كان على الماء قبل السماوات والأرض .
ثم قال : { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } [ الفرقان : 59 ] وقوله : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم } [ غافر : 7 ] وقوله : { استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } [ البقرة : 29 ] وقوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] فأخبر أنه استوى على العرش فيلزمك أن تقول : المدة التي كان على العرش فيها قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه إذ كان استوى على العرش معناه عندك : استولى فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله وقد روى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا : قد بشرتنا فأعطنا قال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا : قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان قال : كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء ] وروي [ عن أبي رزين - وكان يجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته أنه قال : يا رسول الله كان ربنا قبل أن يخلق السماوات قال : ( فقال الجهمي : أخبرني كيف استوى على العرش ؟ أهو كما يقال : استوى فلان على السرير فيكون السرير قد حوى فلاناً وحده إذا كان عليه فيلزمك أن تقول : إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا قال : فيقال له : أما قولك : كيف استوى ؟ فإن الله لا يجري عليه : كيف وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنهم لم يخبرهم كيف ذلك ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله ولكن يلزمك أيها الجهمي أن تقول : إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه كما تقول العرب : فلان في البيت والماء في الجب فالبيت قد حوى فلاناً والجب قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا : إن الله عز وجل في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد فكفروا بذلك وقيل لهم : ما أعظم الله إذ جعلتموه في بطن مريم ! وأنتم تقولون : إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضاً أن تقول : إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أن الله في كل مكان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ! فلما شنعت مقالته قال : أقول : إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء خارجاً عن الشيء ولا مبايناً للشيء قال : فيقال له : أصل قولك : القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئاً لأنه لو كان شيئا داخلاً فمن القياس والمعقول أن يكون داخلاً في الشيء أو خارجاً منه فلما لم يكن في قولك شيئاً استحال أن يكون كالشيء في الشيء أو خارجاً من الشيء فوصفت لعمري ملتبساً لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك : التعطيل )]انتهى
وأما قوله في حديث الجارية فمن الهذيان وإن هذا يذكر بقول أبي حنيفة : إني لا أناظر الرجل حتى ينقطع إنما أناظره حتى يجن قالوا : كيف ذلك ؟ قال : يقول ما لم يقله أحد . ولعمر الله إن هذا مما لم يقله أحد بل ومن أبعد الأشياء عن الفطرة والمعقول فالرسول يقول ( أين الله ؟ ) والجارية تقول في السماء ولو كان كما يقول ذلك الأحمق لكان السؤال : من تعبدين ؟! كما هو بين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق