الكِنْدِي فَيْلَسُوفُ العَرَبِ

الكِنْدِي فَيْلَسُوفُ العَرَبِ
(نظرات نقدية في ترجمته وفلسفته)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه كلمات مختصرة ألفتها في بيان معتقد الفيلسوف الشهير يعقوب بن إسحاق الكندي الذي يلقبه المستشرقون ومتفلسفة العرب بفيلسوف العرب معتمدًا في ذلك على رسائله وكتبه أولًا، وكلام أهل الفلسفة عنه ثانيًا، ومن نقده ونظر في كلامه نظرة النقد ثالثًا، والله أعلم وهو حسبي وعليه أتوكل.

سعى كثير من المستشرقين إلى نفي قول القائلين بأن الكندي عربي وظنوا أنهم بذلك يحطون على العرب لجهلهم بالفلسفة وفنون اليونان الحكمية! ، وقد دافع عن العرب غير واحد من المفكرين الجاهلين بحقيقة الإسلام والظانين ظن السوء بدين الرسول وشريعة القرآن فقالوا: إن الفلسفة ناسبت وضع اليونان فحذقوها، ولم تناسب العرب لطبيعة حياتهم وطوارق معيشتهم ....إلخ
الحاصل أنهم نسبوا الكندي إلى النصرانية[ من أولئك لويس شيخو المتعصب النصراني] فاعترض عليهم[ ومن أولئك المعترضين عليه خليله في الديانة أنستاس الكرملي في مجلة لغة الرعب 5/302] بأن والده إسحاق بن الصباح(ت:193) كان أميرًا على الكوفة للمهدي والرشيد وما كان للمهدي خاصة أن يولي على الكوفة نصرانيًا بل لم تكن من عادته ولا عادة خلفاء الإسلام في تلك العصر تولية النصارى أصلًا، وكذلك يقال: إن جد الكندي هذا هو الأشعث بن قيس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قبل ذَلِكَ ملكاً عَلَى جميع كندة.
وقد أثبت نسبة الكندي إلى الإسلام غير واحد من المحققين هذا من جهة الأصل أما من جهة العاقبة وما عاناه من الشرك والفلسفة فله حكم آخر، ومن أولئك:
أ‌- محمد بن إسحاق النديم في فهرسته، قال ضمن ترجمة مطولة :" هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح....[سياق نسبه].... فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها ويسمى فيلسوف العرب وكتبه في علوم مختلفة". وهذا نسب مسلم بلا شك، وثمت قرينة أخرى هي ترك ابن النديم تلقيبه بالنصراني كما يفعل مع غيره.
ب‌- القفطي في أخبار الحكماء، قال:" أبو يوسف الكندي المشتهر فِي الملة الإسلامية بالتبحر فِي فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية متخصص بأحكام النجوم وأحكام سائر العلوم فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها وكان أبو إسحاق بن الصباح أميراً عَلَى الكوفة للمهدي والرشيد وَكَانَ جده الأشعث بن قيس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
ت‌- ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء، نقل عن سليمان بن حسان قوله:" إن يعقوب بن إسحاق الكندي شريف الأصل بصري - كان جده ولي الولايات لبني هاشم - ونزل البصرة وضيعته هنالك، وانتقل إلى بغداد وهناك تأدب، وكان عالماً بالطب، والفلسفة، وعلم الحساب، والمنطق، وتأليف اللحون، والهندسة، وطبائع الأعداد، وعلم النجوم، ولم يكن في الإسلام فيلسوف غيره، احتذى في تواليفه حذو أرسطوطاليس، وله تواليف كثيرة في فنون من العلم، وخدم الملوك فباشرهم بالأدب، وترجم من كتب الفلسفة الكثير، وأوضح منها المشكل، ولخص المستصعب، وبسط العويص".
ونقل عن أبي معشر البلخي قوله:" حذاق الترجمة في الإسلام أربعة حنين بن إسحاق، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وثابت بن قرة الحراني، وعمر بن الفرخان الطبري".
ث‌- الشهرستاني في الملل والنحل، قال:" الفصل الرابع : المتأخرون من فلاسفة الإسلام مثل يعقوب بن إسحق الكندي وحنين بن إسحاق ويحيى النحوي وأبي الفرج المفسر وأبي سليمان السجزي وأبي سليمان محمد بن معشر المقدسي...".
ج‌- ابن نباتة المصري، قال في سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون:" الكندي هو يعقوب بن الصباح المسمى في وقته فيلسوف الإسلام".
ح‌- شيخ الإسلام ابن تيمية، قال:" وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الاسلام في وقته أعنى الفيلسوف الذي في الاسلام وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا ابن سينا من فلاسفة الاسلام فقال ليس للإسلام فلاسفة".
خ‌- الحافظ الذهبي ، قال في سير أعلام النبلاء:" يعقوب بن إسحاق ابن الصباح، الكندي الأشعثي الفيلسوف من ولد الاشعث بن قيس، أمير العرب... كان يقال له: فيلسوف العرب، وكان متهما في دينه".
هذا من جهة إبطال قول من قال إنه ليس عربيًا مسلمًا في الأصل.
ولم يرجح الأهواني في كتابه كونه سنيًّا أو شيعيًّا وافترض كونه سنيًا ثم اعترض عليه بأن المهدي والرشيد لا يولون على الكوفة شيعيًّا وإسحاق بن الصباح كان واليًا.
والراجح لدي أنه شيعي، قال صاحب فرج المهموم أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد الطاوس الشيعي:" وممن اشتهر بعلم النجوم وقيل إنه من علماء الشيعة الشيخ الفاضل يعقوب بن إسحاق الكندي وصل إلينا من تصانيفه رسالته في علم النجوم خمسة أجزاء".
أما سلسلة نسبه فقد ساقها غير واحد ممن ترجم له ومنهم ابن النديم والقفطي قالا إنه:" أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكبرين الحارث الأصغر بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مرقع بن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كيلان ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان".
ومن عجيب ما يورد ها هنا أن الكندي كان يرى أن يونان المنسوب إليه اليونانيون أخو قحطان، أورد ذلك النويري في نهاية الأرب، وقال:" ورد عليه أبو العباس عبد الله بن حمد الناشئ في قصيدته حيث قال:

أبا يوسف إني نظرت فلم أجد *** على الفحص رأياً صح منك ولا عقدا
وصرت حكيماً عند قوم إذا امرؤ*** بالهم جميعاً لم يجد عندهم عهدا
أتقرن إلحاداً بدين محمد *** لقد جئت شيئاً ياأخا كندة إدا
وتخلط قحطاناً بيونان ضلة*** لعمري لقد باعدت بينهما جدا
ولد الكندي بالبصرة سنة 185 على ترجيح بعضهم ظنًا، وبها نشأ وتعلم أشياء من الأدب وعلوم الشرع والكتابة والخط ومياسير العلم، ثم انتقل إلى بغداد فتعلم الطب والفلسفة والهندسة والموسيقى والأدب وتألأيف اللحون، وطبائع الأعداد وحساب الجمل، قال الذهبي:" كان رأسًا في حكمة الاوائل ومنطق اليونان والهيئة والتنجيم والطب وغير ذلك. لا يلحق شأوه في ذلك العلم المتروك، وله باع أطول في الهندسة والموسيقى".
وكان عظيم المنزلة عند المتوكل حتى وشي به فناله بعض الأذى، ثم عظمت منزلته بعد لدى المأمون والمعتصم وابنه أحمد الذي صنف له رسالة في تلقينه فضيلة التفلسف، وسيأتي أنها تعد من أعماله في التوفيق بين الشريعة والفلسفة.
اشتهر بالبخل حتى عرف به، وري عنه من وصيته التي نقلها ابن بختويه:" قول لا، يصرف البلا؛ وقول نعم، يزيل النعم؛ وسماع الغناء برسام حاد، لأن الإنسان يسمع فيطرب وينفق فيسرف فيفتقر فيغتم فيعتل فيموت، والدينار محموم، فإن صرفته مات والدرهم محبوس فإن أخرجته فر؛ والناس سخرة، فخذ شيئهم واحفظ شيئك، ولا تقبل ممن قال اليمين الفاجرة، فإنها تدع الديار بلاقع".
وقال ابن النديم عنه :" كان بخيلًا".
وقال الذهبي:" كان متهما في دينه، بخيلا، ساقط المروءة". قلت: وهذا شأن كل من تعاطى الفلسفة والعلوم المذمومة.
عظم قدره في صناعة الفلسفة لعدة أمور، منها:
الأول: أنه أول من تكلف علمها والبحث في مسائلها، وشرح كتب رجالاتها لا سيما أرسطو، وإن كان يخالفه كثيرًا إما جهلًا بحقيقة قوله لأنه لم تبلغه من كتبه ما بلغ غيره كابن رشد وابن سينا والفارابي وأبي البركات ونحوهم من المتأخرين عنه، وإما لقناعته بما توصل إليه من حقيقة في بحث المسألة المعينة.
ولكن غالب الفلسفة الطبيعية حذا فيها حذو أرسطو، ولذا قال أحمد فؤاد الأهواني:" الفلسفة الطبيعية التي يقررها في بعش رسائله هي الفلسفة التس سادت منذ أرسطو حول عشرين قرنًا من الزمان".[الكندي فيلسوف العرب:ص306].
الأمر الثاني: سعيه في التوفيق بين الشريعة والفلسفة، وتزيينه الفلسفة في أعين الناس.
الأمرالثالث: براعته في المنطق والطب والموسيقى وفروع المعرفة الفلسفية.
الأمر الرابع: أنه فيلسوف العرب ، وعروبته أصلية لسانية بخلاف ابن سينا البخاري، أو الفارابي التركي، أوالنصير الطوسي، أو ابن رشد وابن باجه وابن طفيل الأندلسيون! ، وسائر الحرانيين ممن اشتهر بالفلسفة.
الأمر الخامس: أنه أول من سعى في ترجمة الفلسفة بمعناها دون حرفها بخلاف غيره من النصارى والمجوس الذين لم يحذقوا اللسان العربي ولم يتمرسوا به ولا أجادوا الأدب كالكندي فكانوا يفسرون كتب اليونان تفسيرًا حرفيًا.
ويذكر كثير ممن ترجم له أنه كان معنيًا بالأدب، قال الذهبي:" وله نظم جيد وبلاغة وتلامذة".
ومن نظمه في الشعر:
وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا أدري أيها هاج لي كربي
أوجهك في عيني أم الطعم في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي
قال ابن قتيبة:" واللّه لقد قسمها تقسيماً فلسفياً".
وقال الشيخ أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري اللغوي في كتاب الحكم والأمثال أنشدني أحمد بن جعفر، قال أنشدني أحمد بن الطيب السرخسي، قال أنشدني يعقوب بن إسحاق الكندي لنفسه:

أناف الذنابى على الأرؤس ... فغمض جفونك أو نكس
وضائل سوادك واقبض يديك ... وفي قعربيتك فاستجلس
وعند مليكك فابغ العلو ... وبالوحدة اليوم فاستأنس
فإن الغنى في قلوب الرجال ... وإن التعززبالأنفس
وكائِنْ ترى من أخي عسرة ... غني وذي ثروة مفلس
ومن قائم شخصه ميت ... على أنه بعد لم يرمس
فإن تطعم النفس ما تشتهي ... تقيك جميع الذي تحتسي
ونقل ابن نباتة حكايته مع أبي تمام لما أنشد الأخير عند أحمد بن المعتصم قصيدته السينية وفيها:

إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس
فقال الكندي: ما صنعت شيئًا!. قال: كيف؟ قال: ما زدت على ان شبهت ابن أمير المؤمنين بصعاليك العرب! وأيضًا إن شعراء دهرنا تجاوزوا بالممدوح من كان قبله، ألا ترى إلى قول العكوك في أبي دلف:

رجل أبر على شجاعة عامر *** باسًا وغير في محيا حاتم
فأطرق الكندي ثم أنشد:

لا تنكروا ضربي له من دونه *** مثلًا شرودًا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره *** مثلًا من المشكاة والنبراس
ولم يكن هذان في القصيدة، فتعجبوا منه.
توفي الكندي نحو سنة 260هـ، وخلف كتبًا متكاثرة مبثوثة أسماؤها في كتب التراجم، وقال الشهرزوري:" إن فهرس كتبه يزيد على دست كاغد" أي اثنتي عشرة ورقة .
ولذا أورد ابن النديم له 241 كتابًا موزعة على 17 فنًا من فنون العلم الطبيعي والفلسفي.
طبع منها مجموعة رسائل في مجلدين بعناية الدكتور أبي ريده، وكتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الاولى ، وخمس رسائل أولاها في ماهية العقل، مؤلفات الكندي في الموسيقى (نشرها زكريا يوسف)، وغيرها.
تنبيه:
ترجم الحافظ ابن حجر للكندي مرتين أولاهما في ج6، ص305 برقم 1091 قال فيها:" يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث الكندي فيلسوف العرب يكنى أبا يوسف ذكره بن النجار وكان متهما في دينه وله مصنفات كثيرة في المنطق والنجوم والفلسفة وله معرفة بالأدب..".
والثانية في ج6،ص306 برقم 1102 قال فيها:" يعقوب بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث الكندي أبو يوسف، فيلسوف الإسلام، كان واحد عصره في معرفة العلوم القديمة، وصنف في المنطق والحساب والأرتماطيقي والموسيقى والنجوم، وقد سرد بن النديم في الفهرست أسماء تصانيفه فبلغت مائتين وبضعة وثلاثين تصنيفًا"انتهى
قال الدكتور أحمد فؤاد الأهواني:" ويبدو أن ابن حجر قد خيل إليه أن فيلسوف العرب شيء، وفيلسوف الإسلام شيء آخر،وذلك على الرغم من أنه أورد اسمه واسم آبائه وأجداده كاملًا، مما كان ينبغي أن يفطن معه إلى أن الرجل واحد"[الكندي فيلسوف العرب:ص9-10].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق