دروس
في علم المعاني (1): الفصاحةُ
بسم
الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما
بعد:
فهذه
دروس مختصرة في علم المعاني أحد فروع علوم البلاغة( المعاني، البيان، البديع) أقدمها
بين يدي إخواني في منتديات (دعوة الحق السلفية) آمل أن ينتفعوا بها، وأن تكون لبنة
في صرح العلوم الإسلامية الذي يتعالى كل يوم بفضل الله أولًا -وقبل كل شيء- ثم
بفضل جهود العلماء وطلبة العلم أجزل الله لهم المثوبة وجمعنا وإياهم في دار رضوانه
إنه سميع مجيب.
الدرس
الأول: الفصاحة:
تعريف
الفصاحة لغة واصطلاحًا:
الفصاحة
لغة:
قال ابن
فارس في معجم مقاييس اللغة:" (فصح) الفاء والصاد والحاء أصلٌ يدلُّ على خُلوصٍ
في شيءٍ ونقاء من الشَّوب. من ذلك: اللِّسان الفصيح: الطَّليق. والكلام الفصيح: العربيّ.
والأصلُ أفْصَحَ اللّبَنُ: سكنت رَُِغوتُه. وأفْصَحَ الرّجل: تكلَّم بالعربيَّة. وفَصُح:
جادت لغتُه حتَّى لا يلحَنُ.. وحكَى: فَصُحَ اللبنُ فهو فصيح، إذا أُخذت عنه الرِّغوة.
ويقولون: أفصَحَ
الصُّبح، إذا بدا ضوؤُه. قالوا: وكلُّ واضحٍ مُفْصِحٌ. ويقال إنَّ الأعجم: ما لا ينطق،
والفصيحَ: ما ينطق" انتهى بتصرف.
الفصاحة
اصطلاحًا:
لهم في ذلك
عبارات منها قول بعضهم:"[الفصاحة] في المفرد خلوصه من تنافر الحروف والغرابة أو مخالفته للقياس وفي الكلام خلوصه
عن ضعف التأليف وتنافر الكلمات مع فصاحتها وفي المتكلم ملكة يقدر بها على التعبير عن
المقصود".
وقال
بعضهم:" الفصاحة تتبع خواص تراكيب الكلام إفادة ودلالة وترتيبًا".
وقال
القزويني:" الفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد فيقال كلمة فصيحة ولا يقال كلمة بليغة..
أما فصاحة المفرد فهي خلوصه من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي".
والعبارات
في تعريفها متقاربة، والله أعلم.
علاقة
التعريف اللغوي بالاصطلاحي:
الفصاحة
لغة في عموها خلوص الشيء كلامًا كان أو لبنًا أو نحوه من شائب، وهي اصطلحًا خلوص
الكلام أو الكلمات المفردة من شوائب معينة وخوارم مبينة ستأتي عن شاء الله . إذن
بين التعريفين عموم وخصوص: التعريف اللغوي أعم وهو متضمن للتعريف الاصطلاحي.
شوائب
الفصاحة في الكلمات المفردة:
الفصاحة في
الكلمة المفردة حال تعانق الكلمة عند خلوص الكلمة من الشوائب اللفظية وهي كثيرة
جدًّا أشهرها ما يلي:
- تنافر الحروف: ويكون ذلك حال تباعد مخارجها أو عشر النطق بها أو غير ذلك والضوابط هنا أغلبية وليست جامعة. مثال: قال أعرابي وقد سئل عن ناقته: تركتها ترعى الهعخع!، وأدنى من ذلك في الفحش قول امرئ القيس الكندي في معلقته: غدائرها مستشزراتٌ إلى العلا.
- الغرابة: كون الكلمة وحشية غير مستأنسة تفتقر لمعرفة معناها إلى مطالعة جوامع العرب كالمعاجم الكبرى والقواميس الحاوية للشوارد والغرائب . مثال: روى عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه الناس فقال ما لكم تكأكأتم عليَّ تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني.والمعنى: ما لكم اجتمعتم علي اجتماعكم على مجنون، تنحوا عني. وما أحسن ما قال صفي الدين الحلي:
إنّما الحَيزَبونُ والدّردَبيسُ،
***والطَّخَا والنُّقاخُ والعَطلَبيسُ
والسّبَنتَي، والحَقصُ،
والهِيقُ، ***والهجرسُ والطرقسانُ والعسطوسُ
لغة ٌ تنفرُ المسامعُ منها
***حينَ تُروى وتَشمَئزّ النّفوسُ
وقبيحٌ أن يذكرَ النافرُ
الوحـ ـ***شي منها ويُتركَ المأنوسُ
أينَ قَولي هذا كثيبٌ قَديمٌ،***
ومَقالي عَقَنقَلٌ قَدمُوسُ
لم نجدْ شادياً يغني قفا
نبـ ***ـكِ على العُودِ، إذ تُدارُ الكؤوسُ
لا ولا مَن شَدا أقيمُوا
بَني *** أُ متي، إذا ما أُديرَتِ الخَندَريسُ
أتُراني إن قُلتُ للحِبّ
يا عِلْـ*** ـقٌ درَى أنهُ العزيزُ النفيسُ
أو إذا قلتُ للقِيامِ جُلوسٌ،
*** علمَ الناسُ ما يكونُ الجلوسُ
خَلّ للأصمَعيّ جَوبَ الفَيافي،***
في نَشافٍ تَخِفّ فيهِ الرّؤوسُ
وسؤالَ الأعرابِ عن ضيعة
ِ اللفــ*** ظِ إذا أُشكِلَتْ علَيهِ الأُسُوسُ
دَرَسَتْ تِلكُمُ اللّغاتُ
وأمسَى *** مَذهَبُ النّاسِ ما يَقولُ الرّئيسُ
إنّما هذِهِ القُلوبُ حَديدٌ،
*** ولَذيذُ الألفاظِ مِغناطيسُ
تنبيه: ضابط
غرابة الكلمة أن تكون غريبة عند العلماء لا عند كل أحد، فأمثالنا يستغرب أكثر
اللغة.
- مخالفة القياس:
كقول
الشاعر: الحمدُ للهِ العليِّ الأجللِ. والقياس: الأجلِّ بالإدغام.
شوائب
الفصاحة في الكلام المؤلف:
كثيرة
منها:
- تنافر الكلمات:
كقول بعضهم:
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفر *** وليسَ قربَ قبرِ حربٍ قبر
- التعقد : وهو أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد منه كقول الفرزدق:
وما مثلُه في
النّاسِ إلا مملكا *** أبو أمه حيٌّ أبوه يقاربه
قال
القزويني:" كان حقه أن يقول وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه
فإنه يمدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان فقال
وما مثله يعني إبراهيم الممدوح في الناس حي يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا
يعني هشاما أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه أي أبو الممدوح فالضمير في أمه للملك وفي أبوه
للممدوح ففصل بين أبو أمه وهو مبتدأ وأبوه وهو خبره بحي وهو أجنبي وكذا فصل بين حي
ويقاربه وهو نعت حي بأبوه وهو أجنبي وقدم المستثنى على المستثنى منه فهو كما تراه في
غاية التعقيد فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل فلم يكن فيه ما
يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة
لفظية أو معنوية".
ومنه قول
العباس بن الأحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا *** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
أراد أنه
سيسكب الدموع حزنًا عليهم ليفرح بعد بالتلاقي والمسرة وجمع الشمل فتجمد عينه عن
الدموع ويصير مسرورًا، ولكن جمود العين ليس كناية عن المسرة إنما هو كناية على بخل
العين بالدموع عند رجاء الحزين لسكب الدمع قالت الخنساء:
أعينيَّ جودا ولا تجمدا *** ألا تبكيان لصخر الندى
- التكرار:
كقول
المتنبي:
إن كنتُ كنتُ كتمتُ الحبَّ كنتُ كما *** كنّا نكون ولكن ذاك
لم يكنِ
أراد أن
يقول: لو أنني بقيت على حالنا من كتمان الحب لما تغير الحال، ولكني لم أفعل. أراد
ذلك فأتى بهذه المكاكاة التي تشبه مكاكاة البطِّ!
ضوابط في
فصاحة الكلمة:
- أن تكون الكلمة مشتهرة الاستعمال.
- أن تكون نزيهة غير مقذعة ولا فاضحة: ولذا لم تقع في القرآن كلمة يستحيا من نطقها في المجامع والمآتم، وقال بعضهم: أكثرت العرب جدًّا من أسماء(الفرج) لأنهم كلما أرادوا تعميته بكلمة اشتهرت فاستحيوا منها فسموه بأخرى وهكذا دواليك.
- أن تكون حسنة الموقع لذيذته على السمع.
- ألا تكون غريبة ولا وحشية.
ضوابط في
فصاحة الكلام:
- أن يدور في مدار كلام العرب.
- أن يجري على السليقة الصحيحة بلا تكلف.
- أن يكون دالًا على المعنى بأقرب طرق الدلالة وأحسنها.
- أن يجتنب فيه التكرار والحشو.
أسئلة
ما تعريف
الفصاحة لغة واصطلاحًا؟
بم تعيب
هذه الأشعار من منطلق فهمك لدرس الفصاحة( احذر قد تكون غير معيبة):
- قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
- قال بعضهم:
سلامي على الدنيا إذا لم يكن بها *** صديقٌ صدوقٌ صادقُ
الوعدِ منصفا
- قال أبو حزام العكلي:
ألَمْ تُزأدْ لإنعاثِ الخلِيطِ *** ليُثعِلَ بالغُطاطِ أوِ الشَّميطِِ
على قُودٍ تُتقتقُ شَطرَ طنْئٍ *** شَأَى الأخْلامَ ماطٍ ذي
شُحُوطِ
- قال رؤبة:
فارتاح ربّي وأراد رحمتي *** ونعمةٌ أتمها فتمتِ
ما سبب
فصاحة هذا الكلام:
- قال أبو النهناش النهشلي! (اسمه غير فصيح):
فللموتُ خيرٌ للفتى
من قُعودهِ *** فقيراً ومِن مولى يدبُّ عقاربُهْ
ولم أََر مثلَ الهمِّ
ضاجعَهُ الفتَى *** ولا كسوادِ الليلِ أخفقَ طالبُهْ
فمُتْ مُعدِماً
أوعشْ كريماً فإنَّني *** أرى الموتَ لاينجُو من الموتِ هاربُهْ
ولوْ كانَ شيءٌ
ناجياً من مَنَّيةٍ *** لكانَ أثيرٌ يومَ جاءَتْ كتائبُهْ
- قال أبو دواد الإيادي:
أكُلَّ امرئٍ تحسبينَ
امرءًا *** ونارٍ تُوقَّدُ بالليلِ نارا
- وقال عروة بن الورد:
لحَا اللهُ صُعلُوكاً
إذَا جنَّ ليلُةُ *** مُصَافي المُشَاشِ آلفاً كُلَّ مَجزَرِ
يعُدُّ الغِنَى
مِنْ دهرِهِ كُلَّ ليلَةٍ *** أصابَ قِراهَا مِنْ صدِيقٍٍ مُيسَّرِ
قَليلَ الِتماسِ
المالِ إلاّ لِنفسِهِ *** إذَا هوَ أضحَى كالعريشِ المُجَوَّرِ
ينَامُ عِشاءً ثمَّ
يُصبِحُ قاعِداً *** يحُتُّ الحَصَى عَنْ جنبِهِ المُتَعفِّرِ
والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق