صِيانَةُ الإنْسَانِ عن تخليطِ الدُّكْتُورِ رَسْلَانِ في مسألةِ القَدَرِ وَعَدْلِ الرَّحْمَنِ






صِيانَةُ الإنْسَانِ
عن تخليطِ الدُّكْتُورِ رَسْلَانِ
 في مسألةِ القَدَرِ وَعَدْلِ الرَّحْمَنِ
كَتَبَها
وليد بن حسني بن بدوي بن محمد الأموي



مُقَدِّمَةٌ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فإن مسائل الإيمان بالقضاء والقدر من أمات مسائل الدين وأصول الشريعة المعلومة من الدين بضرورة النقل والعقل ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ما سئل عن الإيمان ما هو ، قال :" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقدر خيره وشره ".أخرجاه في الصحيحين .
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند ما بلغه قول معبد الجهني ورفاقه:" إذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى برئ منهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أنفق أحدهم مثل أُحدٍ ذهبا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر " .رواه مسلم.
ومن أجل ذلك تكلم أهل العلم في تلك المسائل وحققوها أتم تحقيق وقرروها أوفى تقرير ولم يدعوا لأحد يتكلم بعدهم بمقالة فيصيب إلا وقد اقتبس من مقالتهم واستقى من معينهم ، وأخذ مأخذهم ، وجد في طريقتهم .
ولكن في عصرنا نابت نوائب ، ونبتت نوابت آثرت الدعة وخلدت إلى الراحة وأقفرت منهم دور العلم ومراتع الخير وتكلم من لا يعلم فيما لا يدري واستفتي الرويبضة ودرَّس الحدث فهلكت البلاد والعباد واستغاثت الصفوة الباقية من أهل العلم : يا من عليه المعول وإليه المشتكى اكشف هذه الكربات ونجنا من الفتن المدلهمات .
والعجب الذي لا ينقضي أن أولئك الجهلة والمتعالمين لم يستحيوا من العلماء الراسخين أن يزاحموهم في مواطنهم ، ويوقعوا عنهم عن ربهم ، فتجاسروا على القول على الله بغير علم ، والبتِّ في مسائل الدين الكبرى وأصوله العظمى وأركانه العليا بمحض ظلم.
ومن تلك المسائل مسائل القضاء والقدر التي جفت الأقلام على ما مضى من تقريرها، وطويت الصحف من تحقيقها .
وكما قيل :" ما ترك الأول للآخر " .
وقال غيره :
ولو قبل مبكاها بكيت صبابة *** بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا *** بكاها فقلت الفضل للمتقدم
ومن أولئك الذين خلطوا في المسائل الكبرى وتعجلوا في تقرير الأمات العظمى الدكتور محمد سعيد رسلان، والذي سنناقش قوله إن شاء الله .


فصل في قول الدكتور محمد سعيد رسلان وما فيه من مشكلات ومسائل
قال الدكتور:" لو أن الله رب العالمين ، أدخل الطائعين النار ، وأدخل العاصين الجنة ما كان ليسأل عما يفعل ، بل هم الذين يسألون ، ولكان فعله عدلاً ، ولكان أمره حقاً ، ولكن جعل الله رب العالمين ذلك عليه منة وتفضلاً "اهـ
المسألة الأولى : خطأ الدكتور في فهم حقيقة عدل الله تعالى .
المسألة الثانية : خطأ الدكتور في فهم قوله تعالى (لا يسأل عما يفعل).
المسألة الثالثة : اعتقاد الدكتور جواز إدخال الله الطائعين النار، وإدخاله سبحانه العاصين الجنة.
المسألة الرابعة : العدل والفضل في أفعال الله تعالى .
المسألة الخامسة : موافقة الدكتور للأشاعرة في تلك المقالة .


المسألة الأولى : خطأ الدكتور في فهم حقيقة عدل الله تعالى
العدل لغة :
قال صاحب القاموس :" عَدَلَ يَعْدِلُ فهو عادِلٌ من عُدولٍ وعَدْلٍ بلَفْظ الواحِدِ وهذا اسمٌ للجَمع . رجُلٌ عَدْلٌ وامرأةٌ عَدْلٌ وعَدْلَةٌ . وعَدَّلَ الحُكْمَ تَعديلاً : أقامَهُ .."اهـ
وقال الأزهري في التهذيب :" وأخبرني المنذري عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: العَدْلُ: الاستقامة"اهـ
وقال الزجاج في شرح أسماء الله تعالى([1]) :" العدل أصل هذه اللفظة من قولهم عدلت عن الطريق أعدل عنها عدلا وعدولا وإنما سمي العدل والعادل لأنهما عدلا عن الجور إلى القصد والله تعالى عادل في أحكامه وقضاياه عن الجور ، فأفعاله حسنة وهو كما قال والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء"اهـ
العدل اصطلاحاً :
قال الجرجاني في التعريفات([2]) :" العدل عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط "اهـ
وقال الراغب في المفردات([3]) :" عدل: العدالة والمعادلة لفظ يقتضى معنى المساواة ....العدل هو المساواة في المكافأة إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه والشر بأقل منه "اهـ
وقال ابن تيمية([4]) :" الوجه الثالث أن يقال الناس لهم في عدل الله ثلاثة أقوال:
قيل :كل ما يكون مقدورًا فهو عدل .([5])
وقيل :العدل منه نظير العدل من عباده وهما قولان ضعيفان .
وقيل : من عدله أن يجزي المحسن بحسناته لا ينقصه شيئًا منها ولا يعاقبه بلا ذنب "اهـ
فعدل الله تعالى على المختار من أقوال الناس هو أن يجازي المحسن بحسناته لا ينقصه من ذلك شيئاً وألا يعاقبه بلا ذنب اقترفه ، ولكن قال الدكتور :" لو أن الله أدخل الطائعين الناء والعاصين الجنة لكان فعله عدلاً " ، وهذا لا يكون إلا إذا منعهم جزاء حسناتهم وعاقبهم بلا ذنب ، وحقيقة هذا القول عند التصور خلاف حقيقة العدل بل هو الظلم عينه .
وقال ابن سحمان ([6])- ناقلاً عن ابن تيمية -:" قول بعضهم : الظلم وضع الشيء في غير موضعه كقولهم: ( من أشبه أبه فما ظلم )([7]) فما وضع الشبه غير موضعه . ومعلوم أن الله سبحانه حكم عدل لا يضع الأشياء إلا مواضعها ، ووضعها غير مواضعها ليس ممتنعًا لذاته بل هو ممكن لكنه لا يفعله لأنه لا يريده بل يكرهه ويبغضه إذ قد حرمه على نفسه "اهـ
وقال أيضاً ناقلاً :" وبهذا تبين القول المتوسط وهو : أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه مثل أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه بها ويعاقب البرئ على ما لم يفعل من السيئات ويعاقب هذا بذنب غيره أو يحكم بين الناس بغير القسط ونحو ذلك من الأفعال التي ينزه الرب عنها لقسطه وعدله وهو قادر عليها ([8])"اهـ
وقال ابن القيم([9]) :" فعلى هذا القول الأول يكون المراد أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ومجازات المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ولا يظلم مثقال ذرة ولا يعاقب أحدا بما لم يجنه ولا يهضمه ثواب ما عمله ولا يحمل عليه ذنب غيره ولا يأخذ أحدا بجريرة أحد ولا يكلف نفسا ما لا تطيقه "اهـ
وقال([10]) :" والصواب أن العدل وضع الأشياء في مواضعها التي تليق بها وإنزالها كما أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وقد تسمى سبحانه بالحكم العدل "اهـ
وقال السعدي([11]) :" ومن أسمائه الحكم العدل الذي يحكم بين عباده في الدنيا، والآخرة بعدله، وقسطه فلايظلم مثقال ذرة، ولا يحمل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ويؤدي الحقوق إلى أهلها، فلا يدع صاحب حق إلا وصل إليه حقه.
وهو العدل في تدبيره، وتقديره {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} "اهـ
وهذه المعاني المرتضاة في بيان حقيقة عدل الله تعالى لم يتصورها حق التصور من قال إن الله يكون فعله عدلاً إذا أدخل المحسن النار ولم يثبه على إحسانه ، فهذا من وضع الشيء في غير موضعه، وتصوره مغنٍ عن رده .


المسألة الثانية : خطأ الدكتور في فهم قوله تعالى (لا يسأل عما يفعل)
لما أخطأ الدكتور – هداه الله – في فهم حقيقة عدل الرحمن سبحانه وتعالى وهو أنه يجازي المحسن بإحسانه ولا ينقصه شيئاً ولا يعذبه بما لم يقترفه من الذنوب - وتوطن في صدره خلاف هذا المعنى -جره ذلك إلى اعتقاد أنه سبحانه إذا كان عدله بخلاف ذلك من وضع الشيء في غير موضعه ونحوه فإن لا يسأل عن ذلك ولما يعلم أنه لا يسأل عن فعله لا عوج فيه ولا شطط فلا ظلم في أحكامه ولا فطور في خلقه بل أفعاله كلها حسنة وأحكامه كلها مستقيمة .
قال شيخ الإسلام([12]) :" و هو لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته و رحمته و عدله لا لمجرد قهره و قدرته كما يقوله جهم و أتباعه "اهـ
وقال عن الجبرية ([13]):" وأولئك يتعلقون بقوله لا يسأل عما يفعل والله يفعل ما يشاء وهذا ذكره الله اثباتا لقدرته لا نفيا لحكمته وعدله بل بين سبحانه انه يفعل ما يشاء فلا أحد يمكنه أن يعارضه إذا شاء شيئاً بل هو قادر على فعل ما يشاء بخلاف المخلوق الذي يشاء أشياء كثيرةً ولا يمكنه أن يفعلها"اهـ
وقال ابن القيم([14]) :" وصدق الله وهو أصدق القائلين لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وأنه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يسأل عنه كما يسأل المخلوق وهو الفعال لما يريد ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكة فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور ولا خلاف مقتضى حكمته لكمال أسمائه وصفاته "اهـ
وقال([15]) :" وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته ووقوع أفعاله كلها على أحسن الوجوه وأتمها على الصواب والسداد ومطابقة الحكم والعباد يسألون إذ ليست أفعالهم كذلك ولهذا قال خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام أنى توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم"اهـ
قال السعدي في تفسيره([16]) لقوله تعالي { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } الآية :"{ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } لعظمته وعزته وكمال قدرته لا يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه لا بقول ولا بفعل ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها وإتقانها أحسن شيء يقدره العقل فلا يتوجه إليه سؤال لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال"اهـ
وخلاصة أقوالهم في تلك الآية الكريمة ما يلي :
·  أنه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وعدله وليس لمحض قهره وعزته وولا لأن خلقه يعجزون عن سؤاله .
·      أنه لا حجة فيها لنفاة التعليل لما تقدم .
وأخطأ الدكتور فظن ما ظنته الجهمية من وجهين :
·  أنه جعل عدله كل مقدور له وهذا قول الجهمية ، بل كل ممكن في نفسه كما سيأتي وهذا من الغلو في التجهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية حاكياً قول نفاة التعليل في أفعال الله ومنه قوله ([17]) : (( يجوزون عليه فعل كل شيء ممكن لا ينزهونه عن فعل من الأفعال وليس عندهم قبيح وظلم إلا ما كان ممتنعاً مثل جعل الشيء موجوداً ومعدوماً وجعل الجسم في مكانين )) اهـ
ولذا قال الرازي في تفسير قوله تعالى { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}[الأنعام:28] :" احتج الكعبي به على أن الله تعالى يقبل حجة العباد وليس الأمر كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا يقبل الحجة وظهر بهذا أنه ليس المراد من قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] ما يظنه أهل السنة ، وإذا ثبت أنه يقبل الحجة وجب أن لا يكون فعل العبد بخلق الله تعالى وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى "اهـ
·  أنه على ظنه السيئ بالله وعدله ، زاد أنه لا يسأل عن مثل وضع الشيء في غير موضعه من إدخال الطائعين النار وفيهم الأنبياء والصالحون والصديقون والشهداء، وإدخال العاصين الجنة ومنهم الكافرون والفاسقون والمجرمون وأعداء الرسل .


المسألة الثالثة
اعتقاد الدكتور جواز إدخال الله الطائعين النار، وإدخاله سبحانه العاصين الجنة
وهذا محض غلط ، وقد رده غير واحد من أهل العلم قديماً وحديثاً وجعلوه من سوء الظن بالله تعالى والجهل بحقيقة عدله وحكمته .
قال الإمام ابن القيم في شفاء العليل([18]) في مناظرة جرت بين سني وجبري : قال السني في جواب الجبري: وصرحت بأنه يجوز عليه أن يعذب أشد العذاب لمن لم يعصه طرفة عين فإن حكمته ورحمته لا تمنع ذلك بل هو جائز عليه ولولا خبره عن نفسه بأنه لا يفعل ذلك لم تنزهه عنه "اهـ
وقال أيضاً([19]) -رحمه الله- في عدة الصابرين على قوله سبحانه (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) [ النساء : 146 ] :" كيف يجد في ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سدى بغير جرم كما يأتي إضاعة سعيهم باطلاً فالشكور لا يضيع أجر محسن ولا يعذب غير مسيء وفي هذا رد لقول من زعم أنه يكلف عبده ما لا يطيقه ثم يعذبه على ما لا يدخل تحت قدرته ، تعالى الله عن الظن الكاذب والحسبان الباطل علواً كبيراً فشكره سبحانه اقتضى أن لا يعذب المؤمن الشكور ولا يضيع عمله وذلك من لوازم هذه الصفة فهو منزه عن خلاف ذلك كما تنزه عن سائر العيوب والنقائص التي تنافي كماله وغناه وحمده " انتهى
وقال - رحمه الله - في الجواب الكافي([20]) : (( وكذلك لم يقدره حق قدره من قال : إنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين ويدخلهم دار الجحيم وينعم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين ويدخلهم دار النعيم وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك فمعناه للخبر لا لمخالفة حكمته وعدله وقد أنكر سبحانه في كتابه من جوز عليه ذلك غاية الإنكار وجعل الحكم به من أسوأ الأحكام قال تعالي : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)) [ ص : 27 ، 28 ] وقال : ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) [ الجاثية : 21 ] وقال:((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ القلم : 35 ، 36]))انتهي.
وقال الشيخ السعدي([21]) في قوله تعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) :" { سَوَاءً } في الدنيا والآخرة؟ ساء ما ظنوا وحسبوا وساء ما حكموا به، فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين وخير العادلين ويناقض العقول السليمة والفطر المستقيمة، ويضاد ما نزلت به الكتب وأخبرت به الرسل، بل الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفلاح والسعادة والثواب في العاجل والآجل كل على قدر إحسانه، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة والعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة "اهـ
قلت : هذا في من سوى بين مجترحي السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات فكيف بمن فضل الأولين على الآخرين ! وزعم أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات جائز لربنا أن يعذبهم ويدخلهم النار ويجعلهم في دركات الهالكين المقارفين للمحرمات والمرتكبين للمنهيات ، وأن مجترحي السيئات يدخلهم الجنة ويجعل في مقام الطائعين والسابقين بالخيرات والفاعلين للصالحات .
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه، عذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيًرا لهم من أعمالهم ) .
فليس فيه حجة لمن قال مقالات الجهمية السابقة ، وقد تكلم أهل العلم في معناه بما فيه شفاء للعليل وإثلاج لصدر الغليل :
·  قال شيخ الإسلام ابن تيمية([22]) :" والحديث الذي في السنن : لو عذب الله أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم يبين أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك لا لكونه بغير ذنب وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب "اهـ
·  قال ابن القيم في شفاء العليل([23]) :" فسلك الجبرية وادى الجبر، وطريق المشيئة المحضة الذي يرجح مثلًا على مثل من غير اعتبار علة ولا غاية ولا حكمة.
قالوا: وكل ممكن عدل ،والظلم هو الممتنع لذاته فلو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لكان متصرفًا في ملكه والظلم تصرف القادر في غير ملكه، وذلك مستحيل عليه سبحانه .
قالوا ولما كان الأمر راجعًا إلى محض المشيئة لم تكن الأعمال سببا للنجاة فكانت رحمته للعباد هي المستقلة بنجاتهم فكانت رحمته خيرا من أعمالهم وهؤلاء راعوا جانب الملك وعطلوا جانب الحمد والله سبحانه له الملك وله الحمد وسلكت القدرية وأدى العدل والحكمة ولم يوفوه حقه وعطلوا جانب التوحيد وحاروا في هذا الحديث ولم يدروا ما وجهه وربما قابله كثير منهم بالتكذيب والرد له وأن الرسول لم يقل ذلك قالوا وأي ظلم يكون أعظم من تعذيب من استنفذا أوقات عمره كلها واستفرغ قواه في طاعته وفعل ما يحبه ولم يعصه طرفة عين وكان يعمل بأمره دائما فكيف يقول الرسول صلى الله عليه و سلم أن تعذيب هذا يكون عدلا لا ظلما ولا يقال أن حقه عليهم وما ينبغي له أعظم من طاعاتهم فلا تقع تلك الطاعات في مقابلة نعمه وحقوقه فلو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم لأنهم إذا فعلوا مقدورهم من طاعته لم يكلفوه بغيره فكيف يعذبون على ترك ما لا قدرة لهم عليه وهل ذلك إلا بمنزلة تعذيبهم على كونهم لم يخلقوا السماوات والأرض ونحو ذلك مما لا يدخل تحت مقدورهم قالوا فلا وجه لهذ ا الحديث الإ رده أو تاويله وحمله على معنى يصح وهو أنه لو أراد تعذيبهم جعلهم أمة واحدة على الكفر فلو عذبهم في هذه الحال لكان غير ظالم لهم وهو لم يقل لو عذبهم مع كونهم مطيعين له عابدين له لعذبهم وهو غير ظالم لهم ثم أخبر أنه لو عمهم بالرحمة لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ثم أخبر أنه لا يقبل من العبد عمل حتى يؤمن بالقدر "اهـ
·  وسلك الحافظ ابن رجب مسلكاً آخر في الجواب عن هذا الإشكال فقال([24]):(( وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم لقدر لهم ما يعذبهم عليه فيكون غير ظالم لهم حينئذ)) اهـ


المسألة الرابعة
العدل والفضل في أفعال الله تعالى
الفضل لغة :
قال ابن فارس في مقاييسه([25]) :" (فضل) الفاء والضاد واللام أصلٌ صحيح يدلُّ على زيادةٍ في شيء. من ذلك الفَضْل: الزِّيادة والخير. والإفضال: الإحسان. ورجل مُفْضِل. ويقال: فَضَل الشّيءُ يَفْضُل، وربما قالوا فَضِلَ يَفْضُل، وهي نادرة"اهـ
وقال الراغب([26]) :" الفضل الزيادة عن الاقتصار".
الفضل اصطلاحاً :
قال الجرجاني في تعريفاته([27]) :" الفضل ابتداء إحسان بلا علة ".
قلت : قوله ( بلا علة ) موهم بأنه كذلك في حق فاعله ، وهو ليس كذلك في حق الله فالله يفعل لحكمة، ويتفضل لحكمة ، ويعطي لحكمة، ويمنع لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها .
وقال ابن القيم([28]) :" وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة, والصحيح أنهما الهدى والنعمة, ففضله هداه, ورحمته نعمته ، وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله القرآن, ورحمته الاسلام, وعنهما أيضا: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله, وعن الحسن, والضحّاك, ومجاهد وقتادة فضل الله:الايمان, ورحمته القرآن "اهـ
قلت : وهذا من تفسير الشيء ببعض أفراده .
وقال ابن تيمية([29]) :" ... بين النبى صلى الله عليه و سلم أن كلتا يمين الرب مباركة ليس فيها نقص و لا عيب بوجه من الوجوه كما فى صفات المخلوقين مع أن اليمين أفضلهما كما فى حديث آدم قال:" اخترت يمين ربى و كلتا يدي ربى يمين مباركة " فإنه لا نقص فى صفاته و لا ذم في أفعاله بل أفعاله كلها إما فضل و إما عدل .
و في الصحيحين عن أبى موسى عن النبى صلى الله عليه و سلم قال :" يمين الله ملأي لا يغيضها نفقة سحاء الليل و النهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات و الأرض فإنه لم يغض ما في يمينه و القسط بيده الأخرى يرفع و يخفض" ، فبين صلى الله عليه و سلم أن الفضل بيده اليمنى و العدل بيده الأخرى ومعلوم أنه مع أن كلتا يديه يمين فالفضل أعلى من العدل ، و هو سبحانه كل رحمة منه فضل و كل نقمة منه عدل و رحمته أفضل من نقمته "اهـ
قلت : من درى معنى الفضل في فحوى كلام الدكتور تبين له أنه قريب من معنى العدل عند أهل السنة وأن العدل عنده قريب من معنى العدل عند الجهمية .


المسألة الخامسة
موافقة الدكتور للأشاعرة في تلك المقالة
·  قال الجويني :(( الثواب عند أهل الحق ليس بحق محتوم ولا جزاء مجزوم وإنما هو الفضل من الله تعالي والعقاب لا يجب أيضاً والواقع منه هو عدل من الله ))اهـ([30]) وذهب الماتريدية إلي نحوه([31] ) .
·  قال الغزالي في قواعد العقائد:" الأصل السادس : أن لله عز و جل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ومن غير ثواب لاحق - خلافا للمعتزلة - لأنه متصرف في ملكه ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو محال على الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلمًا "اهـ
·  قال الفخر الرازي([32] ) في تفسيره : (( المسألة الثالثة : أن الله تعالي استنكر التسوية بين المسلمين والمجرمين في الثواب فدل هذا علي أنه يقبح عقلاً ما يحكي عن أهل السنة : أنه يجوز أن يدخل الكفار في الجنة والمطيعين في النار )) ([33] ) اهـ
·  وقال في تفسير قوله تعالى (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [ آل عمران : 162 ] :" واحتج القوم بهذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يدخل المطيعين في النار ، وأن يدخل المذنبين الجنة ، وقالوا : إنه تعالى ذكر ذلك على سبيل الاستبعاد ، ولولا أنه ممتنع في العقول ، وإلا لما حسن هذا الاستبعاد ، وأكد القفال ذلك فقال : لا يجوز في الحكمة أن يسوى المسيء بالمحسن، فإن فيه إغراء بالمعاصي ، وإباحة لها، وإهمالًا للطاعات "اهـ

·      قال السفارييني في نظمه([34]) :
وجاز للمولى يعذب الورى

من غير ما ذنب ولا جرم جرى
·  قال جمال الدين الغزنوي([35]) :" طاعات علامات الثواب لا علل، والمعاصي علامات العقاب لا عللها ؛ لأن القديم سبحانه وتعالى لا يستحق عليه وهو المعبود المستحق للعبادة ثوابه وعقابه عدل لا واجب على الله عز و جل لأن الواجب يقتضي موجبا والموجب فوق الموجب عليه وليس أحد فوق الله عز و جل "اهـ
·  قال المتولي في الغنية([36]) :" ثواب المطيع وعقاب العصاة ليس بحق على الله من جهة العقل ولكن الخبر ورد بأنه يثيب المطيعين ويعذب العصاة ووعده حق ووعيده حق([37]) "اهـ


الخلاصة
وتلخيصاً للمقال ووصفاً للحال كما قال الشاعر([38]) يقال :
أما القطاة فإني سوف أنعتها *** نعتاً يوافق نعتي بعض ما فيها
 (( قد تكلف ذلك الدكتور ما جهل وتجشم ما خفي وسلك جادة من إذا أصاب عاد صوابه عليه ذماً وإن أخطأ صار خطأه جهلاً وظلماً إذ إنه تكلف ما لا يدرى ولم يتحرز عما يردي فليتب إلي الله قبل ابيضاض السبيبة وليسأل الغفران مولاه بداراً لانصرام الشبيبة .
وبعد هذا البيان ارم كلمة الشيخ رسلان حيث شئت من الوديان والله المستعان .
وهذا غيض من فيض ولولا خشية الملالة لما نكبت عن الإطالة .... وفي هذا ذكري لمدكر وموعظة بليغة لمعتبر )) .
والله أعلم . وصلى الله وسلم على نبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليمًا كثيرًا .









[1]  - تفسير أسماء الله تعالى : ص 44 .
[2]  -  التعريفات : ص 191 .
[3]  - مفردات القرآن : ص 325 .
[4] - الجواب الصحيح ( 2 / 103 ) .
[5]  - قال ابن القيم في شفاء العليل :" وأما الجبرية فعندهم أن كل مقدور عدل "اهـ
[6]  - تنزيه الشريعة عن الألفاظ الشنيعة . والفتاوى الكبرى ( 1 / 75 ) .
[7]  -  انظر ( مجمع الأمثال ) برقم 4020 ، ج 2 ، ص 300 بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد . وأصله عجز بين ينسب لرؤبة بن العجاج في مدح عدي بن حاتم الطائي وتمامه :
بأبه اقتدى عَدِيٌّ في الكرمْ *** ومن يشابه أبه فما ظَلَمْ
وهو الشاهد رقم ( 5 ) في شرح ابن عقيل على الخلاصة .
وقبله قوله :
أنتَ الحليمُ والأميرُ المنتقِمْ *** تصدعُ بالحقِّ وتنفِي مَن ظُلِمْ
[8]  -  مجموع الفتاوى ( 18 / 146 ) .
[9]  -  شفاء العليل : ص 87 .
[10]  - شفاء العليل : ص 276 .
[11]  - أسماء الله تعالى ، ص 185 .
[12]  -  مجموع الفتاوى ( 8 / 511 ) .
[13] - مجموع الفتاوى ( 13 / 225 ) .
[14]  - طريق الهجرتين ، ص 612 .
[15]  - مفتاح السعادة ( 2 / 79 ) .
[16]  -  تفسير السعدي : ص 521 .
[17]  -  انظره ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4 / 230 – 236 ) .
[18]  -  شفاء العليل : ص 139 .
[19]  - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين : ص 241 .
[20]  - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص : 174 .
[21]  - تفسير السعدي : ص 777 .
[22]  - الفتاوى الكبرى ( 1 / 75 ) .
[23]  - شفاء العليل ، ص 113 .
[24]  - شرح الحديث السادس والعشرين من كتابه (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم) .
[25]  - مقاييس اللغة : باب الفاء والضاد وما يثلثهما : مادة فضل .
[26]  - مفردات القرآن : ص 381 .
[27]  - التعريفات : ص 215 .
[28]  - الفوائد : ص 133 .
[29]  -  مجموع الفتاوى ( 17 / 93 ) .
[30]  -  الإرشاد : 381 .
[31]  - العقائد النسفية : 154 .
[32]  -  في تفسير سورة القلم الآية : 35 . ج 8 ، ص ؟ .
ولعل قائلاً يقول : إن المحققين من أهل العلم بينوا أن التفسير الكبير ليس كله من تصنيف الرازي بل فيه ما ليس له . قيل : نعم , ولكن أهل العم صرحوا بأنه قد فسر سورة القلم كاملة وما بعدها قال المعلمي اليماني في بحثه الفائق عن التفسير الكبير : (الأصل من هذا الكتاب وهو القدر الذي هو من تصنيف الفخر الرازي وهو من أول الكتاب إلى آخر تفسير سورة القصص، ثم من أول تفسير الصافات إلى آخر تفسير سورة الأحقاف، ثم تفسير سورة الحديد والمجادلة والحشر، ثم من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب، وما عدا ذلك فهو من تصنيف أحمد بن خليل الخولي، وهو من التكملة المنسوبة إليه ، فإن تكملته تشمل زيادة على ما ذكر تعليقاً على الأصل ، هذا ما ظهر لي . والله أعلم) انتهي
[33]  -  التفسير الكبير 30 / 81  .
[34]  - انظر كلام الشيخ ابن سحمان في الرد عليه:(تنزية الشريعة عن الألفاظ الشنيعة).
[35]  - أصول الدين : ص 174 .
[36]  - الغنية في أصول الدين ، ص 168 .
[37]  - انظر كلام ابن القيم المتقدم في جوابه الكافي .
[38]  - هو عليل بن الحجاج الهجيمي ( ذيل الأمالي والنوادر: 211 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق