المناظرة الصغرى في إثبات صفة اليدين لله تعالى بين سلفي وأشعري

المناظرة الصغرى في إثبات صفة اليدين لله تعالى بين سلفي وأشعري
السلفي: أتثبت لله تعالى اليدين كما أثبت ذلك لنفسه في قوله (بل يداه مبسوطتان) وفي قوله رسوله صلى الله عليه وسلم (كلتا يديه يمين)؟
الأشعري: نعم، أثبت له يدين ، وأقول: إن اليد بمعنى القدرة.

السلفي: إذن لله قدرتان لأنك تثبت بنص القرآن له يدين !
الأشعري: بل له قدرة واحدة فتوحيد صفاته يقتضي أنه ليس له صفتان من نوع واحد كما قرر ذلك أئمتنا([1]).

السلفي: وأي شيء أفادت التثنية لليد التي بمعنى القدرة عندك!
الأشعري: أفاد ذلك توكيد المعنى .

السلفي: هذا مما لا نظير له في استعمال العرب اللغوي، وينفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم(كلتا يديه يمين) فإنه أثبت له يدين وأن كلتيهما يمين ويتعذر مع هذا البيان أن يكون له قدرتان كلتاهما يمين، أو له قدرة كما زعمت ثم يكون مناسبًا الاستطراد النبوي(كلتا يديه يمين!)، وكذلك قوله تعالى في خلق آدم:( لما خلقت بيدي) فلو كانت اليد هي القدرة لما خص آدم بأنه مخلوق بها إذ كل مخلوق فهو بقدرته سبحانه وتعالى.
الأشعري: إن كان آدم قد خلق بيد الله فإن سائر الخلق قد خلقوا بكلامه ولا تشريف لمخلوق بصفة على مخلوق بصفة آخرى.

السلفي: بل التشريف حاصل لآدم لأنه دون غير مخلوق بيدي الله تبارك اسمه، وغيره خلق بكلامه سبحانه وهذا تخصيص تشريفي ووجهه واضح وجلي .
ثم إن آدم كذلك مخلوق بكلامه تبارك وتعالى كما قال تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
الأشعري: أقلني من القول بأن اليد بمعنى القدرة.

السلفي: أقلتك، وأخبرني بأي معنى هي!
الأشعري: هي بمعنى النعمة.

السلفي: واليدان هما النعمتان، ولكنهما أي نعمتين؟
الأشعري: نعمتا الدنيا والآخرة، أو نعمتا الدنيا الظاهرة والباطنة، أو نعمتا المطر والنبات التان بهما سائر النعم.

السلفي: هذا المعنى حصلته بضرورة أم بنظر؟
الأشعري: بنظر.

السلفي: فأنت على يقين بصحته أم على ظن.
الأشعري: على يقين بعدم خروج الصحة من أحد تلك المعاني، وكل بمعنى بمفرده فأنا على ظن من صحته.

السلفي: فمن اعتقد معنى من تلك المعاني يكون على يقين من صحته في نفسه، وتبرأ بذلك ذمته من تعظيم النص وإثبات الصفة أم لا؟
الأشعري: يكون على ظن، وتبرأ ذمته إن شاء الله.

السلفي: ولكن طريق العلميات هو طريق اليقين دون الظن، وتشوف الشارع إلى الاجتماع فيه دون التفرق ولا مرجح للاجتماع على معنى دون آخر. فلا مرجح للقدرة على النعمة ولا للنعمة على القوة ولا للقوة على القدرة، وتفسير اليد بالقدرة أو بالقوة أو بنحوهما من الصفات متعذر لتعذر اجتماع صفتين لله من نوع واحد، وتفسيره بالنعمة غير منضبط كما تقدم فيداخله الظن والاحتمال فيباين جادة اليقين التي هي مسلك الكلام في العلميات بل وأعظم العلميات صفات الرب تبارك وتعالى.
قال الفخر الرازي:" صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل.
وهو إما لفظي أو عقلي:
والأول: لا يمكن إعتباره في المسائل الأصولية لأنه لا يكون قاطعا لأنه موقوف على انتفاء الاحتمالات العشرة المعروفة وانتفاؤها مظنون، والموقوف على المظنون مظنون والظني لا يكتفي به في الأصول.
وأما العقلي: فإنما يفيد صرف اللفظ من ظاهره لكونه الظاهر محالا وأما إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل لأن طريق ذلك ترجيح مجاز على مجاز وتأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدليل اللفظي والدليل اللفظي في الترجيح ضعيف لا يفيد إلا الظن والظن لا يعول عليه في المسائل الأصولية القطعية فلهذا اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف بعد إقامة الدليل القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال ترك الخوض في تعيين التأويل" انتهى.
الأشعري: فماذا تقول أنت ؟

السلفي: أقول إنهما يدان حقيقيتان تلقيان بالله تبارك وتعالى. والقرآن نزل بلغة العرب واليد المطلقة في لغة العرب وفي معارفهم وعاداتهم المراد بها إثبات صفة ذاتية للموصوف لها خصائص فيما يقصد به وهي حقيقة في ذلك. ولا يثبت في معنى اليد معنى خلاف هذا إلا بقرينة.
الأشعري: القول بأنهما حقيقيتان يستلزم أنهما جارحتان كجارحتي المخلوق.

السلفي: القول بأنهما جارحتان أو ليستا بجارحتين مما لم يأت به آية محكمة ولا سنة صحيحة مبينة ولا أعرف فيه قولا لصاحب ولا تقريرًا لتابع. والقول بالتشبيه أبرأ إلى الله منه.
الأشعري: أتقول إن الله خاطبنا في كتابه بما نعرف أم بما لا نعرف؟

السلفي: بما نعرف.
الأشعري: فإني لا أعرف من معنى اليد إلا الجارحة ذات الأصابع والأعصاب والدم والعروق.

السلفي: بل تعرف غير هذا، يد السكين والسيف ونحوهما ليست بذات عروق ولا دماء ولا أعصاب.
الأشعري: إذن بين لي معنى اليد التي تثبتها لله تعالى.

السلفي: اليد معروفة من اللغة وهي كما صح الخبر يبسطها كيف يشاء ويمسك به السموات والأرض يوم القيامة ويهزهن ...إلخ لا نعدو ما جاءت به الأخبار.
الأشعري: هذا ليس بمعنى لليد.

السلفي: أما المعنى الذي هو حد نتج عن تصور فلا مجال للعقل في تصور صفاته سبحانه وتعالى كما لا نتصور ذاته والقول في الصفات كالقول في الذات، وأما اليد فمعروفة على وجه مخصوص أنها يد حقيقة لائقة بربنا تبارك وتعالى يبسطها ويقبضها ويمسك بها السموات والأرض ويهزهن ....إلى آخر ما جاءت به الأخبار.
لا نعدو بذلك الكتاب والسنة الصحيحة ولا نشبه يد ربنا بيد المخلوقين، ولا نجحد أن تكون له يد فنكذب بكتاب رب العالمين.
الأشعري: فهلا قلت: له يد ذات عروق ودماء وأعصاب ليست تشابه يد المخلوقين!

السلفي: إنما قلت له يدان لأنه أخبر عن نفسه فقال:(بل يداه مبسوطتان)، وأكد ذلك رسوله في غير ما حديث بأن له يدين كلتاهما يمين فأثبت ما أثبت الله ورسوله ولم يأتني عن الله ولا عن رسوله أن هاتين اليدين ذواتا أعصاب ولا عروق ولا دماء ،،، فتوقفت وما أتكلم في هذا بنفي ولا إثبات ولا تقرير ولا إنكار ولم أعد النص ولا تسورت الوارد ولا رجمت بغيب.
الأشعري: فهلا أثبت له أيدي لقوله تعالى(مما خلقت أيدينا أنعامًا) !

السلفي: لفظ الأيدي مجموع ومضاف إلى جمع فلا يدل على إثبات أيد كثيرة فهو كقوله تعالى(بما كسبت أيدي الناس)، وكقول الملائكة:( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا) فلا يفهم منه أن لكل ملك أيدي. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:( ويضع الأرض في الأخرى) فجعلهما اثنتين ولو كن أيدي كثيرة لقال:(في أخرى).
وكذلك فإن العرب يستعملون الجمع في موضع المثنى أحيانًا ولا إشكال على هذا.
الأشعري: ولكن على هذا لا فرق بين آدم والأنعام فهذا آدم خلق بيديه وهذه الأنعام عملت بيديه كذلك لأن الجمع كما زعمت وضع موضع المثنى.
السلفي: بل ثمت فرقان:
أحدهما: انه هنا أضاف الفعل إليه وبين أنه خلقه بيديه وهناك أضاف الفعل إلى الأيدى.
الثانى: أن من لغة العرب أنهم يضعون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس كقوله تعالى: (والسارق والسارق فاقطعوا أيديهما) أى يديهما وقوله: (فقد صغت قلوبكما) أى قلباكما.
الأشعري: فبم تدفع قول من قال: إن التثنية في (اليدين) من قبيل تثنية اللفظ دون تثنية الصفة؟

السلفي: القائل بهذا لجأ إلى ذلك فارًّا من إثبات يدين حقيقيتين لله تبارك وتعالى فذهب هذا المذهب إلى تسعفه دلالة نقلية ولا أمارة عقلية، وقد بينت أن طريقة التأويل لليدين عند من ارتضاها ظنية في تعيين المعنى، فلم يبق إلا سبيلان: سبيل التفويض مع الإثبات وهذا غير مرتضى لأمور ليس هذا موضعها.
الثاني: إثبات يدين حقيقيتين لائقتين بالله تبارك وتعالى.
ويوصف الله تعالى بعد ذلك بأن له يدين، فوصفك إياه بأن له يدين واحد مفرد أي أن له صفة واحدة هي اليدان ، والموصوف به ربنا يدان اثنتان.




تقرير في إثبات صفة اليدين لله تبارك وتعالى
من كلام  أبي الحسن الأشعري
قال أبو الحسن الأشعري في كتابه ( الإبانة عن أصول الديانة ) : " قد سئلنا أتقولون إن لله يدين؟
قيل : نقول ذلك بلا كيف وقد دل عليه قوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) وقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ( إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته ) فثبتت اليد بلا كيف وجاء في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم ( أن الله تعالى خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده )... وقال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) وجاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (كلتا يديه يمين ) وقال تعالى : ( لأخذنا منه باليمين ) وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل : عملت كذا بيدي ويعني به النعمة وإذا كان الله عز و جل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل : فعلت بيدي ويعني النعمة بطل أن يكون معنى قوله تعالى : ( بيدي ) النعمة وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل : لي عليه يدي بمعنى لي عليه نعمتي ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها وأن لا يثبت اليد نعمة من قبلها لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى : ( بيدي ) نعمتي فليس المسلمون على ما ادعى متفقين وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل : بيدي يعني نعمتي وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ولن يجد له سبيلاً.. ويقال لأهل البدع : ولم زعمتم أن معنى قوله : ( بيدي ) نعمتي أزعمتم ذلك إجماعاً أو لغة ؟ فلا يجدون ذلك إجماعا ولا في اللغة . وإن قالوا : قلنا ذلك من القياس . قيل لهم : ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى : ( بيدي ) لا يكون معناه إلا نعمتي ؟ ومن أين يمكن أن يعلم بالعقل أن تفسير كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز و جل قد قال في كتابه العزيز الناطق على لسان نبيه الصادق : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) وقال تعالى : ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) وقال تعالى : ( إنا جعلناه قرآناً عربياً ) وقال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله ) ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه فلما كان من لا يحسن لسان العرب لا يحسنه وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه على أنهم إنما علموه لأنه بلسانهم نزل وليس في لسانهم ما ادعوه . وقد اعتل معتل بقول الله تعالى : ( والسماء بنيناها بأيد ) قالوا : الأيد القوة فوجب أن يكون معنى قوله تعالى : ( بيدي ) بقدرتي قيل لهم : هذا التأويل فاسد من وجوه :
أحدها : أن الأيد ليس جمع لليد لأن جمع يد أيدي وجمع اليد التي هي نعمة أيادي وإنما قال تعالى : ( لما خلقت بيدي ) فبطل بذلك أن يكون معنى قوله : (بيدي ) معنى قوله : ( بنيناها بأيد ) . وأيضاً فلو كان أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي وهذا ناقض لقول مخالفنا وكاسر لمذهبهم لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة فكيف يثبتون قدرتين . وأيضاً فلو كان الله تعالى عنى بقوله : ( لما خلقت بيدي ) القدرة لم يكن لآدم صلى الله عليه و سلم على إبليس مزية في ذلك والله تعالى أراد أن يرى فضل آدم صلى الله عليه و سلم عليه إذ خلقه بيديه دونه ولو كان خالقا لإبليس بيده كما خلق آدم صلى الله عليه و سلم بيده لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه وكان إبليس يقول محتجا على ربه : فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم صلى الله عليه و سلم بهما فلما أراد الله تعالى تفضيله عليه بذلك وقال الله تعالى موبخا له على استكباره على آدم صلى الله عليه و سلم أن يسجد له : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت ؟ ) دل على أنه ليس معنى الآية القدرة إذ كان الله تعالى خلق الأشياء جميعاً بقدرته وإنما أراد إثبات يدين ولم يشارك إبليس آدم صلى الله عليه و سلم في أن خلق بهما.وليس يخلو قوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين أو يكون معنى ذلك إثبات يدين جارحتين [ أي كيدي المخلوقين ] . تعالى الله عن ذلك أو يكون معنى ذلك إثبات يدين قدرتين أو يكون معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين لا توصفان إلا كما وصف الله تعالى فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل : عملت بيدي وهو نعمتي . ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين .
وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله تعالى : ( بيدي ) إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قدرتين ولا نعمتين لا يوصفان إلا بأن يقال : إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت . وأيضاً فلو كان معنى قوله تعالى : ( بيدي ) نعمتي لكان لا فضيلة لآدم صلى الله عليه و سلم على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفينا لأن الله تعالى قد ابتدأ إبليس على قولهم كما ابتدأ آدم صلى الله عليه و سلم وليس تخلو النعمتان أن يكونا هما بدن آدم صلى الله عليه و سلم أو يكونا عرضين خلقا في بدن آدم عليه الصلاة و السلام فلو كان عنى بدن آدم عليه السلام فلأبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد وإذا كانت الأبدان عندهم جنسا واحدا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ما حصل في جسد آدم صلى الله عليه و سلم وكذلك إن عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم صلى الله عليه و سلم من لون أو حياة أو قوة أو غير ذلك إلا وقد فعل من جنسه عندهم في بدن إبليس وهذا يوجب أنه لا فضيلة لآدم صلى الله عليه و سلم على إبليس في ذلك والله تعالى إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن لآدم صلى الله عليه و سلم في ذلك الفضيلة فدل ما قلناه على أن الله عز و جل لما قال : ( خلقت بيدي ) لم يعن نعمتي . ويقال لهم: لم أنكرتم أن يكون الله تعالى عنى بقوله : ( بيدي ) يدين ليستا نعمتين ؟
فإن قالوا : لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة . قيل لهم : ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ؟ وإن رجعونا إلى شاهدنا أو إلى ما نجده فيما بيننا من الخلق فقالوا : اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة . قيل لهم : إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله تعالى فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما فاقضوا بذلك على الله - تعالى عن ذلك - وإلا كنتم لقولكم تاركين و لاعتلالكم ناقضين وإن أثبتم حياً لا كالأحياء منا فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله تعالى عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي ؟
وكذلك يقال لهم : لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد فإن قالوا إذا أثبتم لله عز و جل يدين لقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) فلم لا أثبتم له أيدي لقوله تعالى : ( مما عملت أيدينا ) ؟
قيل لهم : قد أجمعوا على بطلان قول من أثبت لله أيدي فلما أجمعوا على بطلان قول من قال ذلك وجب أن يكون الله تعالى ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين لأن الدليل عنده دل على صحة الإجماع وإذا كان الإجماع صحيحا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين لأن القرآن على ظاهره ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة فوجدنا حجة أزلنا بها ذكر الأيدي عن الظاهر إلى ظاهر آخر ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقته لا يزول عنها إلا بحجة . فإن قال قائل : إذا ذكر الله عز و جل الأيدي وأراد يدين فما أنكرتم أن يذكر الأيدي ويريد يدا واحدة ؟ قيل له : ذكر تعالى أيدي وأراد يدين لأنهم أجمعوا على بطلان قول من قال أيدي كثيرة وقول من قال يدا واحدة فقلنا يدان لأن القرآن على ظاهره إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف الظاهر .
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى : ( مما عملت أيدينا ) وقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي على المجاز ؟ قيل له : حكم كلام الله تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس هو على حقيقة الظاهر وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة كذلك قوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدين ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة ولو جاز ذلك لجاز لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز أن يكون مجازا بغير حجة بل واجب أن يكون قوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم : فعلت بيدي وهو يعني النعمتين" انتهى

[1] - قال البيجوري : (( ومعنى الوحدانية في الصفات أنه ليس له صفتان أو أكثر من جنس واحد كقدرتين وهكذا ...)) انتهى من (( رسالة في التوحيد : ص 40 )) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق